كتب : د طريف سردست / العراق
كانت بغال محملة بالعتاد والاغراض تصعد طريق جبلي بصعوبة، مع مجموعة من البيشمركة، عندما فجأة خرج احد البغال عن الطريق وألقي بنفسه في الهاوية ليموت. هل انتحر البغل تخلصا من آلامه ومصاعبه؟
يوجد العديد من الاخبار قادمة الينا منذ ماقبل عشرات السنوات، عن انتحار الحيوان. مثلا عام 1845 كتبت مجلة انباء لندن المصورة مقالة عن ” حالة انتحار” بطلها ” كلب اسود جميل ومن نوعية النيو فاونلاند الثمينة”. الكلب بقي لعدة ايام بدون حيوية بشكل غير طبيعي ولكن فيما بعد جرت رؤيته وهو ” يرمي نفسه في الماء ويحاول الغطس من خلال ابقاء اطرافه الاربعة ثابتة لاتتحرك”.
الكلب جرى انقاذه وربطه. ولكن في كل مرة كان يجري اطلاقه يسارع على الفور الى القاء نفسه في الماء ويحاول الغطس. هذا الامر تكرر عدة مرات الى ان اصيب بالتعب ” ومن خلال ابقاءه رأسه تحت الماء ، بشكل مقصود، لبضعة دقائق، تمكن من تحقيق غرضه، إذ عندما جرى رفعه من الماء كان هذه المرة ميتا”. وحوداث انتحار لها جذور اعمق في التاريخ، إذ حتى اريسطوطاليس ذكر لنا عن حصان انتحر عندما علم انهم خدعوه وجعلوه يلقح امه.
“مثل هذه المقالات الساخرة تعكس القيم السائدة في المجتمع الذي انتجها” يقول رامسدين. في القرن التاسع عشر كان يُنظر الى انتحار الحيوان على انه من دلائل الادمان او الجنون او الحب او الولاء وهي نفس المعاني والاسباب التي يجري ربطها بإنتحار الانسان. في الازمنة الابكر لم يكن يجري توزيع مثل هذه القيم ولكن جرى استخدام الحيوان لتعريف الانتحار.
بالنسبة لسان اوغوسطينو وتوماس اغوينو Thomas Aquinas وهم مفكرين لاهوتيين من القرن الثالث عشر، فإن الانتحار يتعارض مع الطبيعة وضد شريعة الله، يقول رامسدين في حواره مع ممثل مجلة ديسكوفري: هؤلاء يستخدمون ” انعدام الانتحار في الطبيعة” كبرهان على ان الانسان لايجوز له الانتحار”. المعضلة انهم يريدون ان يروا انعدام الانتحار في الطبيعة بغض النظر عن مدى صدق ذلك. غير ان ” اوغينو كان على خطا” حسب البسيكولوجي Thomas Joiner من جامعة فلوريدا ومؤلف كتاب ” Myths of Suicide “. ان انتحار الحيوان، في كثير من الحالات ، هو دلالة على سوء معاملة الانسان للحيوان، ودلالة على غباء الانسان، الذي في كثير من الحالات لايحسن قراءة الاشارات التي يرسلها الحيوان كأنذار قبل الاقدام على انهاء حياته.
في الواقع نحن نعلم أشكال اخرى للظاهرة التي تموت فيها الحيوانات نتيجة تسبيبها الاذى لذاتها. self-injurious behavior (SIB). لاتوجد اسبابا ثابتة لبعث هذه الظاهرة ، فالاسباب تختلف من حالة الى اخرى، ولكن هناك مجموعة من الاسباب المحفزة، عادة تحت تأثير البيئة التي فرضها الانسان، مثل التوتر والعزلة والخوف والمرض وسوء التغذية وصغر مساحة الحجز او القفص. مثلا الطيور يمكن ان تنتف ريشها والبدائيات تعض نفسها.
عام 1962 قام الباحث John B Calhoun بنشر نتائج اعماله لصالح المعهد الوطني للصحة النفسية، والتي حظيت بأهمية خاصة لتصميم المدن والتجمعات السكنية. كان الباحث قد قام بوضع مجموعة من الفئران في قفص كبير محمي من الامراض ويحتوي على كل مايحتاجونه من الطعام والماء. النقص الوحيد كان في المساحة، حيث كانت بالكاد تكفي. بسبب ذلك كانت تتواتر اللقاءات الغير مرغوبة فيها بصورة دائمة مما سبب زيادة في التوتر. الفيزيولوجي Hans Selye, كان يتابع تطور سلوك الفئران. كان السلوك الطبيعي يقوم على مبدأ: القتال او الهروب، غير ان الهروب كان مستحيل، لذلك اصبح العنف لامفر منه وبدون حدود. انتشر اكل الفئران لبعضهم البعض وتزايد قتل الصغار كما انتشر الجنس والاغتصاب الى درجة الهلوسة واصبحت ممارسة الجنس مع الجميع وبين الجميع بما فيه الجنس المثلي. عدد الفئران تناقص كثيرا، ومن بقي منهم على قيد الحياة كان مصابا بالعديد من الامراض النفسية ويهرب من ممارسة الجنس وينحو للعزلة. وحتى عندما جرى وضعهم في مجتمع طبيعي حافظوا على العزلة حتى الموت.
TIME Sience نشرت مقالا اشارت فيه الى ان Richard O Barry كان حاضرا عندما قام الدلفين فليبر بالانتحار اثناء العرض المصور، او على الاقل ذلك مابدى للناظر. لقد نظرت اليه في عينيه ثم غطست الى قاع الحوض وتوقفت عن التنفس حتى ماتت. هل هذا انتحار؟ الشركة التي تقف خلف صناعة الترفيه عن النفس، والتي كانت تملك الدلافين للتسلية، حاولت بكل الطرق اقناع المشاهدين ان الدلافين لاتفهم للانتحار معنى. غير ان الدلافين تملك دماغا متطورا، ومن الطبيعي الاعتقاد انه عندما تتحول حياة الدلفين الذكي الى نمط كئيب ان ينهي حياته بالانتحار.
في السابق كان الاعتقاد ان الانتحار عمل واع، بالضرورة. مريام ويبستير Merriam-Webster, تقدم لنا تعريف للانتحار تقول فيه أن الانتحار:” فعل مع النية في تسبيب قتل الذات بحرية ووعي”، لذلك فلايمكن للحيوان ان يقوم بفعل الانتحار. غير ان الواقع يشير الى ان بعض الحيوانات تموت بطريقة تعطي الانطباع وكأنها مصممة على الموت. والبعض يحاول تفسير ذلك بتفسيرات بعيدة عن الانتحار في حين ان البعض الاخر يرى ان ذلك انتحارا.
نلاحظ التغييرات في التعريف عندما يقول رامسدين:” وصلنا الى التشكيك في تعريف الانتحار. الجسم والمشاعر قد تخربت بفضل ضغط الانفعالات وهذا يؤدي الى الانتحار. ليس بالضرورة ان الامر كان اختيارا”.
ويقول: ” الامر يصبح معكوسا، انتحار الحيوان والانسان لم يعد بالامكان النظر اليه على انه عمل واعي وانما جواب على الظروف والعلاقة السائدة”.
غير ان هناك نوع اخر من الانتحار نرى حدوثه بوضوح لدى الكائنات الصغيرة والتي تعيش في مجتمعات مثل النمل وحشرات اخرى او الجرذ العاري الاعمى.
يقول جوينير: “مدهشة القوة الانتحارية الفعالة التي تمارس في الطبيعة. كائنات من جميع الانواع معروفة بقدرتها على ابادة الذات بشكل من الاشكال، غالبا من اجل حماية الاقرباء، وبهذه الطريقة الحفاظ على جيناتها”.
إذا اخذنا مثلا مقولة :” موتي اثمن من حياتي” نجده مبدأ يمارس لدى جميع الكائنات وهذا التقدير له المعنى نفسه بغض النظر إذا كان مكتوبا بالجينات او باللغة الانكليزية.
مثلا الحشرات من نوع Pea aphids, (المنى)، عندما تصبح مهددة من جعل lady bug يمكنها ان تفجر نفسها فتقضي على انتشارها وتحمي اخوانها واحيانا تتمكن من قتل الحشرة المهاجمة، (Larry O Hanlon). انهم بمعنى الكلمة ” منتحرين صغار”. كما جرى ملاحظة ان السلومونيلا ، ومن اجل قتل البكتريا المنافسة، لاتتورع عن تفجير منظومة مناعتها الذاتية على الرغم من ان ذلك يؤدي الى الانتحار، حسب Chang, Kenneth (August 25, 2008). كما ان مملكة القرضة الافريقية يقوم بعض جنودها بسد الممرات من الخارج مع ان ذلك يؤدي الى انتحارهم، نفس الامر نجده لدى اعضاء قبيلة الجرذان العارية حيث البعض يضحي بنفسه لاغلاق الممرات من الخارج لمنع الافاعي من الوصول الى بقية القطيع. وفي كتاب (هل تنتحر الحيوانات) do animals commit suicide? Nobel, Justin (Mar. 19, 2010) يشير الكاتب الى وجود تقارير عن حوادث انتحار بين الكلاب والاحصنة والدلافين.
بغض النظر عما إذا كان المنتحر كلب عاني من الحزن او حصان مصاب بكآبة او حتى حوت انهى حياته بغرابة على شاطئ، يوجد خلف كل حدث منهم قصة طويلة عن عوامل سلوكية اوصلتهم الى الانتحار. هذه العوامل السلوكية يمكن ان تساعد الباحثين في تفسير الانتحار عند الانسان، حسب دراسة نشرت حديثا. في ذات الوقت يمكن ان تعلمنا عن مقدار المسؤولية الاخلاقية المتزايدة التي يتحملها الانسان في حياة الحيوان، إذ ان غالبية الالام التي يعاني منها الحيوان سببها البشر.
فكرة ان الحيوان يصلح ان يكون موديلا لدراسة اسباب الأنتحار عند الانسان بدأت تتجذر في القرن العشرين، حسب الباحث Edmund Ramsden وهو احد مؤلفي الدراسة التي نُشرت في مجلة Endeavour مع زميله المؤلف Duncan Wilson من جامعة مانشيستر، ونرى صدى لها في دراسة الفئران التي ذكرناها سابقا.
مايمكن ان يخبرنا اياه الكلب او البغل او الحصان الذي سعى الى الانتحار عن التشابه بين الانسان والحيوان ليس كثيرا ولكن المشترك ان هذا السلوك هو نتيجة من نتائج مجموعة اسباب اساسها في قاعدتنا البيلوجية.
الفرق الكبير بين مبررات الحيوان على الانتحار وبين مثيلتها لدى الانسان الحديث، أن مبررات الانسان يمكن ان تخطأ. بعض عمليات الانتحار تحدث بهدف حماية الحياة غير ان غالبية عمليات الانتحار بين البشر، التي تحدث سنويا في العالم لاتخدم احدا. لربما الانتحار كظاهرة كان له سبب في بدايات نشوء المجتمعات الانسانية ولكنه فقد وظيفته في المجتمعات الحديثة، واصبح بالاساس بسبب اخطأ بيئية او نفسية او أجتماعية أو سياسية أو دينية.