كتب ا/ نايت علي فاتح
الصيدلة علم يبحث في العقاقير وخصائصها وتركيب الأدوية و تصنيعها و كل ما يتعلق بخصائصه الاستشفائيّة، ويتصل اتصالاً وثيقًا بعلمي النبات والحيوان؛ فمعظم الأدوية أصلها نباتي أو حيواني، كما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعلم الكيمياء والفيزياء ؛ لأن الأدوية تحتاج إلى معالجة ودراية بالمعادلات والقوانين الكيميائية…
تاريخيّا كانت الصيدلة غير مستـقــلـّة عن الطب وكان الدواء ينتقل من يدي الطبيب إلى فم المريض مباشرة، وللطبيب أعوان يساعدونه على جمع الأعشاب التي يستخلص منها الدواء و من ثمّ تركيبه وقبض ثمنه من المريض، وكان في ذلك عبئ إضافي للطّبيب فكان الطّبيب يمارس نشاطين : تشخيصي وعلاجي؛ أي نظري وعملي، ومن ثم انفصلت صناعة الطب عن صناعة العقاقير واستقل كل منهما بذاته. وكان الرازي أول من قال باستقلال الصيدلة عن الطب، كما رأى أن جهل الطبيب بمعرفة العقاقير لا يحول دون ممارسته الطب. ويبدو ذلك جلياً في معرض حديثه عن امتحان الطبيب: “أما امتحانه بمعرفة العقاقير فأرى أنها محنة اختبار ضعيفة، وذلك أن هذه الصناعة هي بالصيدلاني أولى منها بالطبيب المعالج”.
بعد أن انفصلت الصيدلة عن الطب، تضاعف مستوى الاهتمام بالعقاقير و المواد الصيدلانيّة، وأنشئت الحوانيت لصناعتها وبيعها وتصريفها، كما أنشئت المدارس لتعليم تلك الصناعة ثم توسعت مما أدى الى فتح أول صيدلية في التاريخ في بغداد عام 621هـ، 1224م. وألّف العرب في هذا العلم ما أطلقوا عليه اسم الأقرباذين؛ أي الدستور المتبع في تحضير الأدوية. ولعل من أهم مآثر المسلمين في تلك الحقبة ـ في مجال الصيدلة ـ أنهم أدخلوا نظام الحسبة ومراقبة الأدوية. ونقلوا المهنة من تجارة حرة يعمل فيها من يشاء، إلى مهنة خاضعة لمراقبة الدولة. ونقل العرب نظام الحسبة ذاك إلى أوروبا في عهد فريدريك الثاني (607 ـ 648هـ، 1210 ـ 1250م)، ولا تزال كلمة مُحْتَسِب مستخدمة في الأسبانية بلفظها العربي حتى الوقت الراهن. وعقب الفصل بين مهنتي الطب والصيدلة، ارتقت كلتا المهنتين؛ إذ تفرغ الطبيب إلى التشخيص والبحث، وتفرغ الصيدلاني إلى تجويد عمله عن طريق البحث، ووُضع للصيادلة دستور يسيرون عليه ويلتزمونه، وينص هذا الدستور فيما ينص ـ على التمييز بين علم الطب وعلم الصيدلة، فحظر على الصيدلي التدخل في أمور الطب، كما حظر على الطبيب امتلاك صيدلية أو أن يفيد من بيع العقاقير، وبذا لا تحق ممارسة مهنة الصيدلة إلا لحامل ترخيص رسمي، ولا يحق ذلك أيضًا إلا لمن أدرجت أسماؤهم في جدول الصيادلة. وكان يناط بمفتش رسمي في كل مدينة الإشراف على الصيادلة وكيفية تحضير العقاقير. يسَّر هذا الدستور للصيدلة أن ترتقي بوضوح علمًا قائمًا بذاته، مما جعل الصيادلة ينتقلون إلى مملكة النبات التي وجدوا فيها مجالاً خصبًا للعمل؛ فزرعت النباتات الطبية بشكل منتظم وفق شروط خاصة في مزارع خاصة رعاها الحكام، وجلبوا لها البذور اللازمة من كل مكان يطلبه الصيادلة، وذلك ما فعله عبدالرحمن الأول في قرطبة. ووفق تنظيم مهنة الصيدلة، أصبح في كل مدينة كبيرة عميد للصيادلة يقوم بامتحانهم كابن البيطار في القاهرة. كما فرض الدستور الجديد على الأطباء أن يكتبوا ما يصفون من أدوية للمريض على ورقة سمّاها أهل الشام الدستور وأهل المغرب النسخة وأهل العراق الوصفة.
و في عصر النهضة الإسلامية أصبحت الصّيدلة علماً له كل مقوماته : الملاحظة، والبحث، والتجربة ، حيث قام العلماء بدراسات منهجية وأجروا الكثير من التجارب العلمية واستعملوا الأجهزة وتوصلوا إلى الكثير من الاكتشافات. ومن أشهر علماء الصيدلة العرب:
جابر بن حيّان :
هو أبو عبد الله جابر بن حيان بن عبد الله الكوفي المعروف بالصوفي. ولد في طوس ” خراسان” وسكن الكوفة، حيث كان يعمل صيدلانياً وكان أبوه عطاراً و يقدّر الزمن الذي ولد فيه جابر بين 721 م 722 م، أما تاريخ وفاته فغير معروف تماما. ويقال أنه توفي سنة 200 هـ أو ما يوافق 815 م . ويقول هولميارد Holmyard أن جابر عاش ما يقارب 95 سنة، ودليله في ذلك أن المؤلفات التي ألّفها لا يمكن إنجازها بأقل من هذا الزمن
يُعد جابر بن حيّان علم من أعلام العرب العباقرة ، وأول رائد للكيمياء ، وقد أيّد هذه الحقيقة أبو بكر الرازي، عندما كان يشير إلى جابر في كتبه فيقول “أستاذنا” . تقدم علم الكيمياء تقدماً عظيماً على يده ، فهو أول من حضّر حامض الكبريتيك، وحامض النيتريك، وكربونات الصودا، وكربونات البوتاسيوم، وماء الذهب. و هو أيضاً أول عالم كيميائي استعمل الموازين الحساسة في التجارب الكيميائية، وأول من ابتدع عمليات البلورة، والترشيح، والتقطير، والتصعيد وغيرها.
ومن أقواله : ” إن من واجب المشتغل في الكيمياء، العمل وإجراء التجارب، وإن المعرفة لا تحصل إلا بها”
من مؤلفاته في الكيمياء والصيدلة كتاب ” الموازين” وكتاب ” سر الأسرار” وكتاب “الخواص” وكتاب ” السموم ودفع مضارها” ولقد ترجمت معظم كتبه إلى اللغات الأوربية, وظلت مرجعاً في جامعات أوربا لعدة قرون.
أبو بكر الرازي :
ولد أبو بكر الرازي عام 250هـ وتوفي عام 311 هـ ، وعُرِفَ منذ نعومة أظفاره بحب العلم فاتجه منذ وقت مبكر إلى تعلم الموسيقى والرياضيات والفلسفة، ولما بلغ الثلاثين من عمره اتجه إلى دراسة الطب والكيمياء ، فبلغ فيهما شأنا عظيما، ولم يكن يفارق القراءة والبحث والنسخ، وإن جل وقته موزع بين القراءة والبحث في إجراء التجارب أو الكتابة والتصنيف.
برع هذا العالم في الطب والصيدلة والكيمياء ، وارتقت العلوم الصيدلية والطبية والكيميائية على يديه حتى أطلق عليه “أبو الطب العربي”.
ويعد الرازي من الرواد الأوائل للطب ليس بين العلماء المسلمين فحسب، وإنما في التراث العالمي والإنساني بصفة عامة، ومن أبرز جوانب ريادة الرازي وأستاذيته وتفرده في الكثير من الجوانب أنه:
– ابتكر خيوط الجراحة المصنوعة من جلد الحيوان المعروفة بالقصاب
– أول من صنع مراهم الزئبق
– قدم شرحا مفصلا لأمراض الأطفال والنساء والولادة والأمراض التناسلية وجراحة العيون وأمراضها.
– كان من رواد البحث التجريبي في العلوم الطبية، وقد قام بنفسه ببعض التجارب على الحيوانات كالقرود، فكان يعطيها الدواء، ويلاحظ تأثيره فيها، فإذا نجح طبقه على الإنسان.
– عني بتاريخ المريض وتسجيل تطورات المرض؛ حتى يتمكن من ملاحظة الحالة، وتقديم العلاج الصحيح له.
– كان من دعاة العلاج بالدواء المفرد (طب الأعشاب والغذاء)، وعدم اللجوء إلى الدواء المركب إلا في الضرورة، وفي ذلك يقول: “مهما قدرت أن تعالج بدواء مفرد، فلا تعالج بدواء مركب”.
– كان يستفيد من دلالات تحليل الدم والبول والنبض لتشخيص المرض.
– استخدم طرقًا مختلفة في علاج أنواع الأمراض.
– اهتم بالنواحي النفسية للمريض، ورفع معنوياته ومحاولة إزالة مخاوفه من خلال استخدام الأساليب النفسية المعروفة حتى يشفى، فيقول في ذلك: “ينبغي للطبيب أن يوهم المريض أبدا بالصحة ويرجيه بها، وإن كان غير واثق بذلك، فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس”.
– اشتهر في مجال الطب الإكلينيكي، وكان واسع الأفق في هذا المجال، فقد فرق بشكل واضح بين الجدري والحصبة، وكان أول من وصف هذين المرضين وصفا دقيقا مميزا بالعلاجات الصحيحة.
وقد ذاعت شهرته في عصره حتى وصف بأنه جالينوس العرب، وقيل عنه: “كان الطب متفرقا فجمعه الرازي”.
له مؤلفات كثيرة من أهمها كتابه ” المنصوري في التشريح ” الذي أهداه إلى المنصور أمير خراسان، والذي ترجمه إلى اللاتنية فيما بعد جيرار الكريموني وظلت تدرس الأجزاء الكيميائية منه في جامعات أوربا , حتى القرن السادس عشر.
أمّا كتابه ” الحاوي في علم التداوي ” فهو عبارة عن موسوعة مؤلفة من عشرين جزءاً , فهو يبحث في كل فروع الطب والكيمياء، وكان يدرس أيضاً في جامعات أوربا، بل إنه كان أحد الكتب التسعة التي كانت تدرس في كلية طب باريس.
أمّا كتابه ” الجدري والحصبة ” فيعتبر الدراسة العلمية الأولى التي فرقت بين تشخيص هذين المرضين ، ونظراً لأهميته العلمية فقد أعيد طبعه أربعين مرة باللغة الإنكليزية بين عامي م1494 و1866م ، وهو من أوائل الكتب التي أخرجتها المطابع الأولى في العالم.
ابن سينا :
أبو علي الحسين بن سينا ، من أبرز علماء المسلمين العاملين في مجال الطب والعلاج ، ولد في “خرميش” إحدى قرى “بخارى” عام 370 هـ/ أغسطس 908م ، رحل إلى جرجان وهو في العشرين من عمره وبعد وفاة والده ، وأقام فيها ، وألف كتابه “القانون في الطب”، ولكنه ما لبث أن رحل إلى همذان فحقق شهرة كبيرة ، وصار وزيرا للأمير “شمس الدين البويهي”، إلا أنه لم يطل به المقام هناك ، إذ رحل إلى أصفهان وحظي برعاية أميرها وظل فيها حتى وافته المنية عام 428 هـ / 1037م.
يعد كتابه ” القانون في الطب ” من أشهر المؤلفات الطبية التي سجلها التاريخ، وظلت هذه الموسوعة مرجعاً للأطباء والصيادلة في كثير من بلاد العالم المتحضر، حتى أوائل القرن الثامن عشر، ولقد بدأت كتبه تترجم منذ أوائل القرن الثاني عشر، وذلك بعض دارساته أساساً لبرامج التعليم الطبي والصيدلي في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا حتى النصف الأول من القرن الثامن عشر.
وكان لابن سينا معرفة جيدة بالأدوية وفعاليتها، وقد صنف الأدوية في ست مجموعات، وكانت الأدوية المفردة والمركبة ” الأقرباذين” التي ذكرها في مصنفاته وبخاصة كتاب القانون لها أثر عظيم وقيمة علمية كبيرة بين علماء الطب والصيدلة، وبلغ عدد الأدوية التي وصفها في كتابه نحو 760 عقَّارًا رتبها ألفبائيا.
ومن المدهش حقا أنه كان يمارس ما يعرف بالطب التجريبي ويطبقه على مرضاه، فقد كان يجرب أي دواء جديد يتعرف عليه على الحيوان أولا، ثم يعطيه للإنسان بعد أن تثبت له صلاحيته ودقته على الشفاء.
كما تحدث عن تلوث البيئة وأثره على صحة الإنسان فقال: “فما دام الهواء ملائما ونقيا وليس به أخلاط من المواد الأخرى بما يتعارض مع مزاج التنفس، فإن الصحة تأتي. وذكر أثر ملوثات البيئة في ظهور أمراض حساسية الجهاز التنفسي.
فالعلماء المسلمون أول من استفاد من الكيمياء في حقل الصيدلة. و لما اعتمد علمهم التجربة والمشاهدة والقياس أجروا التجارب على الحيوانات قبل تجربتها على بني البشر. وبيّنوا علاقة بعض الأمراض بالخمر ولاحظوا أن لكل مرحلة من العمر معدّلاً معينًا في النبض، وبيّنوا أثر العوامل النفسية في اضطرابه. واستخدموا الأنابيب القصديرية المجوّفة لتغذية المصابين بعسر البلع. والأطباء المسلمون أول من استخدم الإسفنجة المبنجة(المخدِّرة) التي كانت توضع في عصير من الحشيش والأفيون والزؤان وست الحسن (الهيوسيامين). كما برعوا في تشريح العيون وجراحتها وعرفوا ما يطلق عليه اليوم التشريح المقارن. وعرفوا كيفية خياطة الجروح بشكل داخلي لا يترك أثرًا ظاهرًا من الخارج والتدريز في جراحات البطن، وكيفية الخياطة بإبرتين وخيط واحد مثبت بهما. وهناك إسهامات أخرى للعلماء المسلمين في حقلي الطب والصيدلة يضيق المجال عن ذكرها