كتب : د طريف سردست : العراق
المورثات تتعرض لتغييرات اوسع بكثير مما كان عليه الاعتقاد سابقا. الجينات القافزة تقوم بخلط السلسلة الوراثية خالقة ترتيبات فوضوية جديدة فاتحة آفاق غير متوقعة يمكن ان تكون ضارة او مفيدة. هذا النوع من الجينات يسمى النواقل او الجينات القافزة Transposon, ويشكل نصف عدد الجينات الكلي. غير ان مايترتب عليهم ليس فقط حرية لعب مطلقة كما يرغبون. من الصعب التحكم بهذه الجينات او توقع حركتها القادمة غير انهم يحيزون على فضل جعل البشر بشرا. الجينات القافزة لعبت دورا هاما في تطور الانسان وبقيت الاحياء. كما يشير اسمهم الغير رسمي تقوم هذه الجينات بالقفز من مكانها من على الكروموسوم الخلوي لتجلس بمكان جديد تماما. وعندما تكون لازالت تسبح بحرية قرب الكروموسوم يتمكن الكثير منهم من القيام بإستنتساخ نفسه، بحيث انه ليس النسخة الاصلية من الجين وحدها التي ستحشر نفسها في مكان جديد على الكروموسوم وانما ستمطر العديد من نسخها على جميع كرموسومات الخلية في العديد من المواضع.
بهذا الشكل تؤدي الجينات القافزة الى ان الجينوم ككل يصبح اكبر، والجينات القافزة تزداد نسبتها في المجموع العام. عند الانسان تشكل الجينات القافزة 50 بالمئة من مجموع الجينوم في حين انها تشكل 80 بالمئة عند النباتات مثل الذرة والقمح.
عندما تقوم الجينات القافزة بالقفز العشوائي في الجينوم فلابد ان يأتي الوقت الذي تهبط واحدة منهم في جين يملك اهمية حيوية لوظيفة من وظائف الجسم، وهذا الامر يمكن ان يترتب عليه نتائج كبيرة. كل جين من الجينات يملك تسلسل معين، يشكل كود بيلوجي، يؤشر الطريق لبناء بروتين محدد وعندما يقوم الجين القافز بالهبوط في مكان عشوائي يتغير التسلسل والكود البيلوجي.
احد المتخصصين بالجينات القافزة الباحث الامريكي Scott Devine, من جامعة ماريلاند الطبية في بالتيمور الامريكية يصف هذه الجينات كما لو ان شخص يقوم بقص جزء من مخطط بناء مقاعد الركاب في طائرة جمبو ليلصقه على مخطط بناء محرك الطائرة. المحرك سيحصل على مشكلة كبيرة إذا جرى بناء مقعد في وسطه، وبنفس الطريقة سيترتب على وجود ترانسبوزون في المكان الخاطئ من الجين معضلات جدية كالامراض الوراثية من نوع عدم تخثر الدم وامراض العضلات ونقص المناعة.
غير ان التهديد الاكبر الذي تشكله الجينات القافزة تجاه صحتنا هو تحفيز مرض السرطان. في دراسة جرت عام 2010 من قبل الباحث سكوت دافينه عُثر على الترانسبوزون عند 20 شخص مصابين بالسرطان. لقد ظهر ان جينوم الخلية المسرطنة يحتوي على تسعة انواع مختلفة من ترانسبوزون خاص اطلق عليه اسم L1, وهو غير موجود في الخلايا السليمة. الابحاث اليابانية اظهرت ان هذا النوع من الترانسبوزون يلعب دورا حاسما في زيادة حظ المصاب على الشفاء من مرض سرطان الرئة واحد انواع سرطان الامعاء.
لكن الابحاث لم تستطع العثور على الجين الاصلي الذي انحشر الترانسبوزون فيه وقام بتحفيز المرض. غير ان مؤشرات تشير الى انه الجين APC. وظيفة هذا الجين هو التحكم بنمو الخلية ومنعها من التحول الى خلية سرطانية لذلك فإن هبوط الترانسبوزون على كود هذا الجين يعطل الوظيفة تماما.
عالمة النباتات الامريكية Barbara McClintock كانت هي اول من قام بوصف ظاهرة قفز الجينات قبل 60 عاما وحصلت بفضل ذلك على جائزة نوبل عام 1983. سبب اهتمامها نبع من ملاحظة ان نوع من عرانيس الذرة غالبا تملك حبوبها الوان متعددة على شكل الموزائيك. لقد ظهر ان الخلايا ، في الاصل، تحتوي على جين لملون احمر وبالتالي فالحبوب تكون في الاصل حمراء. ولكن احيانا يقوم جين الترانسبوزون بالقفز من مكانه والغاء التلوين لتصبح الحبة صفراء. وكل مرة تقوم الخلية فيه بالانشطار يجري توريث المكان الجديد لجين الترانسبوزون الى الخلية الابنة بحيث يُحافظ على اللون الاصفر والاحمر في الاجيال اللاحقة الى ان يقوم الجين بالقفز مجددا ليتبدل اللون من جديد. بهذا الشكل يظهر في خلال فترة نمو وتشكل عرنوس الذرة تعدد موزائيكي في الوان حبات عرنوس واحد.
توجد العديد من انواع الترانسبوزون وكل نوع يملك طريقته الخاصة في القفز. ابسط الانواع يسمى DNA-transposon, وهو يملك علاقة مع انزيم خاص يساعده على القفز من موضعه. الانزيم يتعرف على تتابع معين في نهاية كل ترانسبوزون ويقوم بقصها من موضعها الجيني. القطعة المتحررة قد تذهب الى موضع جديد على الكروموسوم او الى كروموسوم اخر حيث يقوم الانزيم بقطع قطعة ليسمح للترانسبوزون الحر بالجلوس مكانها. لهذا السبب يسمى هذا النوع بترانسبوزون القص واللصق.
النوع الثاني يسمى ترانسبوزون الاستنساخ واللصق retrotransposon. هذا النوع قادر على استنساخ نفسه بحيث القطعة القديمة تبقى في مكانها في حين ان النسخة تنتشر في اماكن جديدة من الجينوم. في هذه الحالة يقوم انزيم يستخدم ال ر ن آ كحقلة وسطية بنسخ الجين ومساعدته على الانتشار. بذلك يقوم هذا الجين في استنساخ نفسه بكفائة بحيث انه يشكل نسبة 42 بالمئة من الجينوم البشري، في حين ان السابق يشكل فقط 3 بالمئة. وجين الريتروترانسبوزون هو سبب ان الجينوم عند احد انواع القطن ثلاث مرات اكبر من مثيله عند نوع اخر، قريب له. وعند نوعين من الرز نجد الفرق يصل الى زيادة مئة بالمئة.
الجينات القافزة هي المسؤولة عن التنوع الجيني الكبير حتى بين الاقرباء من الدرجة الاولى. الحسابات تشير الى ان كل عاشر شخص يولد ولديه جين قافز من مكانه الطبيعي الذي كان عليه على الكروموسوم الموروث من الوالدين. لذلك فهؤلاء الاطفال لديهم خصائص جينية في الواقع ليست موروثة من الوالدين. يوضح الباحث سكوت دافين الامر بالطريقة التالية:” دراساتنا اشارت انه اذا كان لديك طفل فمن الممكن ان يملك نسخة او عدة نسخ من هذه الترانسبوزون والتي لاتملك مثلها لا انت ولا زوجك/زوجتك. هذا الامر يجعلنا نعتقد ان الجينوم البشري متنوع اكثر بكثير مما كنا نحسب”.
في السابق كان يطلق على القسم الاكبر من الجينوم، والتي يتألف منها الترانسبوزون، junk – DNA ولكن فكرة العلماء عن هذا القسم في طريقها نحو التغير. في الواقع ان الخلايا تستفيد من هذه ” الفضلات” الفائضة إذ تستخدمهم (من بين الاستخدامات الاخرى) لإعادة بناء الكروموسوم، بحيث يتمكنوا من تحقيق وظائفهم بأفضل الطرق. في الواقع الكروموسومات ليست فقط مخزن للجينات وانما لهم مهمات اخرى.
مثلا النقطة المركزية من الكروموسوم centromere حاسمة ليتمكن الكروموسوم من الانشطار بشكل صحيح عند انشطار الخلية. واطراف الكروموسوم telomere تلعب دورا هاما لتوازن الكروموسوم والتحكم بعمر الخلية. ترانسبوزون لاتقدم فقط المتواليات الامينية لبناء اطراف ومركز الكروموسوم وانما ايضا تهتم بأن ال د ن آ يقوم بالانطواء الكثيف على ذاته وبذلك يضمن للكروموسوم بنية قوية في النقاط الهامة. ان الترانسبوزون قادر ان يجعل الحمض النووي ينطوي على ذاته سببه مجموعة من الميكانيزمات الحساسة تطورت على مدى ملايين السنوات في الصراع مع التأثير الضار للترانسبوزونات.
إذا سقط جين قافز على جين ذو وظيفة حيوية سيؤدي الى خلل جدي على حياة الخلية. ولكن الجينات القافزة التي تسقط في مكان بعيد عن الجينات الحيوية بما يكفي فإنها لن تشكل ضرر، ولذلك ازداد اعداد الخلايا التي تحييد بها الترانسفيزون.
احدى الميكانيزمات الدفاعية التي تملكها الخلية يسمى histon modification. بعض البروتينات (هيستونات) تقوم بربط نفسها مع ال د ن آ وكأنها عامود تلقي الصدمات والخلية تجعلهم ينكمشون على انفسهم بحيث انهم يغلقون على الترانسبوزونات ويمنعوهم من التحرك والمغادرة (ينحشرون في مكان لايسمح للانزيم بالدخول والالتقاء بهم وتحريرهم). ميكانيزم دفاعي اخر يسمى DNA-metylering, الذي يقوم بتغيير القيمة الكيميائية للجين القافز من خلال اضافة مجموعة الميتيل اليه. بذلك يصبح الجين مجهول الهوية لمجموع العملية الكودية التي تسمح لها بالتحرر والقفز.
خط الدفاع الثالث يسمى RNA-interferens, ويعمل على تحييد الخطر إذا تمكن الترانسبوزون من تجهيز نفسه للقفز. عندما يحدث تنشيط اي جين على الاطلاق يجري نقل كوده النووي الى ال ر ن آ اولا وتغادر الكروموسوم. إذا كان الجين غير مطلوب فإن الخلية تتعرف على متواليته من حمض ال ر ن آ وتخربها بالسرعة الممكنة قبل ان تتمكن من تسريب اي تأثير ضار. بنتيجة هذه الميكانيزمات نرى ان غالبية الترانسبوزونات يجري السيطرة عليهم ويمنعوا من القفز. وحتى القسم الاكبر من الذي ينجح في القفز ويحشر نفسه في مكان جديد الاحتمال كبير ان يجري كشفه بالاختبارات القادمة. في الواقع ان ميكانيزمات الكشف من الفعالية بحيث ان فقط اقل من 0،05 بالمئة من الجينات القادرة على القفز تتمكن فعلا من القفز.
ومع ذلك فإن هذه النسبة الضئيلة لها تأثير كبير على الجينوم. عندما يقفزون يأخذون معهم اجزاء من الجين المجاور لهم او يتركون اجزاء من متتاليتهم الجينية تدل عليهم في المكان الذي تركوه. ولكون قفزتهم ،في بعض الاحيان، تؤدي الى ان الخيط الكرموسومي الطويل يفتح نفسه (من الانكماش) يمكن ايضا ان يحدث ان الكروموسوم يعيد بناء نفسه تماما لتتموضع الجزيئات بأمكنة جديدة.
في دراسة واسعة جرت عام 2007 من قبل الباحثين John Pace II and Cêdric Feschotte من جامعة تكساس تشير الى ان الترانسبوزون لعب دورا هاما في التطجور المبكر للانسان. التحاليل اشارت الى ان ترانسبوزونات الحمض النووي عند اجداد الانسان كانت نشيطة بشكل غير عادي في الفترة ماقبل 64-80 مليون سنة وهي المرحلة التي بدأت فيها البدائيات primat بالانفصال عن بقية الثدييات. في هذه المرحلة قفزت 43000 ترانسبوزون الى امكنة جديدة ثم حافطت عليها على مدى تاريخ الانسان.
في موجة نشاط لاحقة غيرت 23000 ترانسبوزن مكانه وبنتيجة ذلك ظهرت فروع الانسان والقرود والقرود البشرية. من الصعب معرفة دورهم تماما في التغييرات ولكن لايوجد اي شك في انهم ساهموا في جعلنا مختلفين جينيا عن بقية البريمات بحيث ان تطورنا جرى في اتجاه ظهور نوعنا الخاص.
عدا عن وظيفته في إعادة بناء الجينات وتغيير ترتيبات متوالية الحامض النووي او تحييد جينات يستطيع الترانسبوزون التأثير على الجينوم بطريقة اخرى تملك ايضا تأثيرا هاما على المستقبل. مثلا يمكن لجين قافز ان يهبط في متوالية حامض نووي لجين مسؤول عن التحكم بنشاط جين مجاور بحيث انه يلغي الكبح فيزداد نشاط الجين. ايضا يمكن له ان يحفز الكرموسوم على الانكماش على نفسه بحيث ان الجينات المجاورة ايضا تندفن وتفقد القدرة على ممارسة دورها الحيوي. اي انه وبدون ان يحشر الترانسبوزون نفسه في جين اخر يمكنه ان يعطل وظيفة الجين الاخر مثلا ان يمنعه عن تلوين الزهرة او ينشط جين يعطي للفأر ، مثلا، لونا جديدا.
ومثل الطفرة العادية فإن التغيير الذي ينشأ عن الترانسبوزون يجري استنساخه في انشطار الخلية وتتوارثه الخلايا اللاحقة. وفي حال حدوثه في الخلايا الجنسية يجري توريثه للاجيال ايضا. غير ان الترانسبوزون قادر على القيام بشيئين اخريين لاتستطيع الطفرة العادية القيام بهما.
الاول ان التغييرات التي تحدثها الترانسبوزونات في احد الجينات من السهل نسبيا تصليحها من قبل الجسم، عندما يقوم الجين نفسه بالقفز مجددا الى مكان اخر. هذا الامر صعب الحدوث في الطفرة العادية لكون الطفرة تنشأ بطريقة عشوائية تماما، اي ان احتمال حدوث طفرة معاكسة في المكان ذاته صغير للغاية.
الثاني ان عوامل التوتر مثل الحرارة والمرض والتغذية في بعض الاحوال قادرة على تحفيز القفز عند الترانسبوزونات. مثلا عند نبات التنباك يصبح الترانسبوزون Tnt1 نشيط ويبدأ بالقفز واستنساخ نفسه عند اصابة النبتة بالمرض. وعند ذبابة الموز يبدأ نوعين من الترانسبوزونات Dm412, B104, بالقفز بسبب زيادة الحرارة.
ذلك يعني ان الامراض او التغيرات البيئية قادرة على تحفيز تغيرات جينية يمكنها ان تقدم نماذج جديدة لتجربتها في الظروف الجديدة. وبقليل من الحظ يمكن تقديم نماذج جينية جديدة ممتنعة على الامراض او قادرة على تحمل التغيرات البيئة الجدية وبالتالي تنقذ النوع من الانقراض وتخلق انواع جديدة.
ثمة مثال على القدرات المتطرفة للترانسبوزون على تغيير الجينوم بكامله نجده عند وحيدة الخلية Oxytricha trifallax , والتي قامت الباحثة الامريكية Laura Landweber بدراستها عام 2009. في البداية لاتملك جينات هذا الكائن اية وظائف حيوية ولكن على مدى فترة نموه والتي هي يومان تتجمع جزيئات صغيرة من جميع انحاء الجينوم لتصبح جينات نشطة. بضعة مئات الالالف من الاجزاء النووية تلتحم ببعضها حيث يقوم الترانسبوزون بالانتقال بين العديد من الاماكن في نفس الوقت الذي يجري فيه قص الفائض من متتاليات الحامض النووي من الجينوم. عندما يصبح العمل ناجزا يقفزون الى خارج الجينوم ويخربون انفسهم. في النتيجة نحصل على جينوم اصغر من مجموع جينوم البداية بعشرين مرة والكائن قادر على البقاء.
…………….
كاتب المقال د/ طريف سردست
وحاصل على الدكتوراه من اكاديمية العلوم الزراعية في موسكو إختصاص في الاصطفاء الوراثي
ونحن نشكر للدكتور طريف مساهماتة الفعالة فى نشر المعرفة العلمية لابناء وطننا العربى
هانى سلام
مدير الموقع