ربما كان من الغباء أن يختص مرض معين بشريحة هي الأخرى معينة ومحددة، هو اختصاص غريب أفشته دول توصف بالمتقدمة وعلى أبسط تقدير المرتاحة ماليا، والحقيقة التي لا تقيل القسمة على اثنين، هي أن الفقر أو بالمصطلح الطبي مرض السل، لم ينتشر في دول كإفريقيا التي تعاني من المجاعة والجفاف ولا دول كجنوب شرق آسيا المحاطة بالكوارث والأزمات الطبيعية، وكذلك دول أمريكا اللاتينية النازحة ببطء في طريق النمو، ولكن هذا الداء تجاوز كل الحدود الجيوطبيعية وكسر قيود المسميات ومقاييس التصنيف بين دول الشمال والجنوب، فالقارة العجوز مثلا تأن تحت وطأة هذا الوباء إن صح التقدير، بصمت وتكتم شديدين لا شيء سوى لأن فضيحة المرض أقسى من المرض ذاته، وحتى لو كشفت الأرقام عن حجم المعطيات فإنها تفضح أسرار ووقائع في أغلب الأحيان يسعون لتستر عنها .
لكن النظرة هنا لا ترتبط بمقدار الانتشار ولا تتعلق بالدول التي تقبع وتحتل الصدارة في عدد الإصابات والحالات، بل الأمر أساس يتعلق بخطورة المرض وأسباب التستر عنه في غياب أي رادع له يوقف أو يحمى بعضا من أبرياء الأرض .
فالسل في مفهومه الطبي هو عبارة عن مرض معد تسببه جرثومة بكتيرية فطرية، تهاجم عدد من أعضاء الجسم وأكثرها عرضة للهجوم والتضرر هي الرئتان، مما يتسبب بتطور المرض ليسمي مرض السل الرئوي كواحد من أخطر الأمراض اليوم، ويمكن تحديد مرض السل من خلال عدد من الإعراض نذكر على سبيل المثال، السعال لمدة تتجاوز ثلاث أسابيع حتى مع تناول الدواء المضاد، وإفراز البصاق، انخفاض الوزن، بالإضافة إلي التعرق في الليل والإحساس بألم في الصدر مع فقدان الشهية، لكنها لا تحدد صراحة المصابين بالسل إلا بعد الكشف الطبي، إذ قد تكون أعراض لأمراض أخرى كزكام مثلا، ولكن غياب الوعي وضعف الرقابة الطبية تكون أكثر خطورة من المرض ذاته، إذ تتعلق لا الخطورة هنا بغياب الدواء المعالج للمرض بل تتعلق بعدوانية المرض فالداء معد وهنا تتمثل الخطورة وعليه تعتبر الرقابة الطبية أهم الإجراءات المتبعة لحماية المرض والسليم على حد السواء، يمثل القضاء على الداء وتطويعه واحدة من بين أهم الأهداف التي تتخذها المنظمات الصحية العالمية والإقليمية، نظرا لأن الداء قد يتخذ حليف من نوع خاص هو الأخر أشد خطورة أنه الإيدز، إذ يساعد هذا الأخير على تدمير مناعة الجسم مما تتوفر بيئة مغذية لنمو جرثومة الأول التي يرمز له طبيا TB، وهو اختصار للكلمة الإنجليزية Tuberculosis، وهكذا تتكاثر الجرثومة وسط مناعة منهارة كليا.
تعرف الدول ذات الاقتصاديات الانتقالية ارتفاعا محسوسا في نسبة ارتفاع عدد المصابين بداء السل هذا راجع إلي عدة عوامل على صعيدين شخصي وحكومي، فيما يرتبط بالثاني فإن انهيار الأنظمة الصحية وعدم ثباتها، وعدم استقرار وتدهور مختلف الفروع الاقتصادية في عديد البلدان في العالم سواء بفعل الأزمة المالية الراهنة، وإن لم تكن راهنة في بعض الدول كونها مستدامة وأشبه بالأبدية، وأيضا عدم القدرة على تطويق المرض في ظل غياب الإجراءات الوقائية أو العلاجية الصارمة والدقيقة، وكذلك فإن عدم قدرة الضمان الاجتماعي على تغطية تكاليف العلاج هو حكاية أخرى في فصل أخر، في الزاوية الأخرى فإن انتشار مرض نقص المناعة المكتسبة الإيدز HIV، ساهم بشكل واسع وكبير في تفشي المرض وتوسيع دائرة المصابين،وتمثل الهجرة الغير شرعية عامل حاسم لانتقال المرض من دول فقيرة إلي أخرى غنية، وكذلك غياب الثقافة الصحية وحده يغطي لثقله عدد من العوامل الجانبية.
وفي وقت لا يزال البحث ساريا حول تحدي أسباب تفشي الداء، وتحديد المناطق أكثر عرضة وانتشار لهذا المرض، تشير الإحصائيات إلي أن عدد المصابين يصل إلي 2مليار نسمة أي في حدود الثلث من سكان العالم، بينما ترتفع النسبة في الدول النامية إلي حدود 90%، وتصل حالات الوفاة بهذا المرض إلي مليون ونصف ، وهو ما ينذر بأيام سوداء قد تحل ضيفة غير مرحب بها عندنا نحن البشر.
حقيقة الأرقام السوداء تعبير وبشكل واضح على فداحة الخطأ الإنساني عندما يتجاهل أحد الإعراض أو المرض كله، مرض لا يمكن أن ننسبه إلي دول على حساب دول أخرى بفعل بيانات أو معطيات حسابية، ولو كان فيها جانب هام من الصدق، جانب لا ينفي مسؤولية الدول الغنية في مساعدة الدول الفقير، دول تقع على عاتقها مسؤولية التوعية واستنارة العقول اتجاه أمراض أمخاطر طبيعية كانت أو بشرية، لأن ما يهم فعلا هو التكتل والتكافل لمحاربة كل ما يعوق من سير الإنسانية في جرب الحياة، ولو كان هذا التكتل طبيا بسب الكثير من المعوقات التي تجول دون وحدة عالمية شاملة.
