أ.د/ دسوقي عبد الحليم
أستاذ وعميد معهد الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية
مدينة الأبحاث العلمية والتطبيقات التكنولوجية
هل تفكر النباتات مثلنا نحن البشر؟، هل لديها القدرة على اتخاذ القرار والاختيار بين شيئين؟ هل لديها جهاز عصبي يتأثر بمحيطه وبالتالي يصدر أوامره وردود أفعاله تجاه هذه المؤثرات؟ أين يوجد هذا الدماغ المركزي الذي يتحكم في الخلايا العصبية النباتية؟ طرحت هذه الأسئلة منذ قديم الزمان، ورغم اجتهادات علمية كثيرة على مر التاريخ جاءت الإجابة عن هذه الأسئلة متأخرة جداً في العقد الأول من هذا القرن، حيث تم نشر دراسة بهذا الخصوص عام 2007 شارك فيها أكثر من 33 باحث من الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وإيطاليا وفرنسا ودول أخرى عديدة. نشر هذا البحث في مجلة (TRENDS in Plant Science Vol.12 No.4) الواسعة الانتشار بين متخصصي هذا المجال.
أشارت هذه الدراسة، أن النباتات تمتلك دماغاً له القدرة على التمييز بين الأشياء واتخاذ قرارات محددة في أوقات معينة، وأن هذا الدماغ يقوم بإصدار الأوامر عن طريق جمل وإشارات عصبية كهربية تتنقل بين جميع أجزاء النبات. لقد أثبت الباحثون أن النباتات كائنات تتميز بالذكاء وهي ليست جامدة أو غير عاقلة كما يظن البعض.
كما أوضحت هذه الدراسة أن دماغ النبات يقع في منطقة الجذور وأن به نوع ما من مراكز التحكم ويعمل بطريقة مشابهة لما يتم في الحيوانات الراقية وأن البيانات والمعلومات يتم نقلها عبر إشارات كهربية تتنقل بحرية كاملة بين الجذور والسيقان وكذلك الأوراق. وقد تمكن أحد العلماء من قياس هذه الإشارات الكهربائية التي ترسلها النباتات، من ورقة إلى ورقة، وتوصل إلى أن رد الفعل السريع لدى النباتات لا يقارن بردود الفعل الحيوانية. ففي ثانية واحدة، لا يمكن للنبات نقل المعلومات بأكثر من سنتيمتر واحد، أي أنها أبطأ بنحو عشرة آلاف مرة من رد الفعل الحيواني، وبالتالي فما توصل له العلماء حتى الآن يعني أن النبات ليس كائناً غبياً، لكنه ببساطة يحيا في مقياس زمني مختلف تماماً
قديماً ومنذ الحضارة الإغريقية كان المفهوم السائد عن النباتات أنها كائنات تتميز بالغباء وما هي إلا كائنات أولية لا تمثل إلا حلقة وصل بين الحيوانات الراقية والجمادات، ولقد ظل هذا المفهوم هو الأكثر شيوعا حتى في العصر الحالي، وربما تخلخل هذا الاعتقاد جزئياً منذ ما يقرب من قرنين عندما اكتشف العلماء أن للنباتات حياة جنسية وأنه يتميز إلى ذكر وأنثى. ثم ما لبث أن أكتشف العلماء منذ عدة عقود أن النباتات تمتلك جهاز مناعة مثل الحيوانات، فبدأت النظرة العلمية للنباتات تتغير نحو أن هذه الكائنات ما هي إلا كائنات حية لها قدرات خاصة تمكنها من الدفاع عن نفسها ضد الميكروبات والحشرات المغيرة والمتعدية عليها.
كما أعلنت مجموعة بحثية أخرى من جامعتي بون وفلورنسا بألمانيا، عن اكتشاف ما يمكن وصفه بالدماغ النباتي في تركيبة جذور نبات الذرة، حيث يؤكد الباحث “فرانتيسك بالوسكا” من جامعة بون أنهم تمكنوا من اكتشاف أنشطة كهربائية في جذور النبات، كما وجدوا أن التركيبة البيولوجية للخلايا شبيهة بتركيبة الدماغ الحيواني، لكنه أشار إلى أن تلك الأبحاث مازالت في بدايتها، مما يجعل من المبكر الحديث عن “دماغ نباتي”، وأضاف أنهم يطلقون الآن على ما اكتشفوه لدى النباتات اسم “مركز التحكم”.
لقد حددت هذه المجموعة البحثية المنطقة المسئولة في جذور النباتات عن معالجة المعلومات ونقلها، وهي شبيهة بالمشابك الكيميائية، أي نقاط الاتصال المسئولة عن نقل الإشارات العصبية، والخيوط الرفيعة التي تكوّن الهيكل الخلوي للنبات،
تسمح بنقل الحويصلات الصغيرة بسرعة فائقة، الأمر الذي يشبه تماماً طريقة نقل الإشارات العصبية لدى الحيوان، وكان تعليلهم المنطقي والذي يؤكد نظريتهم أن أي نبات لا يمكنه العيش من دون جذور، فالجذور بالنسبة للنبات مثل الرأس بالنسبة للإنسان.
وفي حالة الظروف البيئية – المحيطة بأطراف الجذور – غير مواتية لاحتوائها على مواد كيميائية سامة أو شح في العناصر الغذائية، فإن أطراف الجذور وخلاياها تكون عبارة عن كتائب الاستطلاع التي ترسل إشارات مشفرة لمركز التحكم بالجذور والذي يقوم بفك هذه الشفرة وتحديد المكان المناسب الذي يجب على فروعه الانتشار والنمو فيه ويرسل بذلك بيانات وإشارات كهربية وكيميائية تقوم أطرافه على إثرها بتنفيذ الأوامر والمضي قدما في الطريق الذي رسمه لها مركز التحكم.
وهنا نقول أليست هذه هي الوسيلة نفسها التي تنتقل بها المعلومات والبيانات والمؤثرات داخل الإنسان والحيوانات الراقية والتي تبني على أساسها قراراتها وأوامرها وردود أفعالها، أليست هذه هي الطريقة التي يعمل بها المخ أو الدماغ في عالم الإنسان والحيوان.
وقد أظهرت نتائج أبحاث العالم الألماني” بالوسكا” مدى العلاقة بين التركيب الخلوي للنبات وتركيبة الجهاز العصبي عند الحيوان، وما يصدر عنه من إشارات كهربائية الذي يمكن معه من القول بان هناك ما يسمى بالجهاز العصبي النباتي يقوم بنفس الدور الذي يقوم به الجهاز العصبي لدى الحيوان، لكنه مختلف البناء.
النباتات الحكيمة
رغم أن هناك تعريفات متعددة وبعضها متباين للذكاء، فإن تعريف الذكاء بأنه القدرة على حل المشكلات هو الأقرب إلى نفسي، وكي نعرف أن هذا الشخص ذكي أم لا لابد من وضعه تحت الاختبار وتعريضه لسلسلة من المشكلات المتتالية، حتى يتبين قدرته على حل هذه المسائل وبالتالي نطلق عليه لفظ “شخص ذكي”. ولتحديد ذلك في النباتات أجرى الباحث “كولن كيلى” من جامعة أكسفورد الإنجليزية اختبار ذكاء لنبات الحامول (نبات الحامول هو نبات متطفل ينمو متسلقاً على العديد من الأشجار والنباتات والإعشاب ويتغذى عليها، وهو نبات يجب مقاومته لأنه يؤثر سلباً على اقتصاديات الكثير من المحاصيل).
قام الباحث بزراعة نبات الحامول على نبات الزعرور البري ولكن بيئة الزراعة كانت مختلفة ومتدرجة من الخصبة إلى الأقل خصوبة حتى الفقيرة في كل العناصر الغذائية، وكان هدفه معرفة سلوك نبات الحامول على أي من هذه البيئات المختلفة سينمو، وكانت المفاجئة حيث أنه لم ينمو ويلتف على سيقان نباتات الزعرور إلا على البيئة الخصبة فقط، وكان يبتعد تماماً عن النبات النامي في بيئة فقيرة. والمثير للدهشة أن النمو والالتفاف حول النبات من عدمه حدث قبل أن يمتص الحامول أي غذاء من الزعرور، وتظهر هذه التجربة أن نبات الحامول قد قام بحل مشكلته في اختيار العائل!
ولقد رصد علماء النبات العديد من أمثلة السلوك الذكي وحسن التصرف عند العديد من النباتات، على سبيل المثال لا الحصر ما يحدث لنبات مرمية الغابة (نبات عشبي معمر عطري يستخدم في طب الأعشاب لتقوية الذاكرة وتنشيط المخ)، حيث عندما يتعرض نبات المرمية لهجوم من حشرة أو اعتداء من حيوان يقوم بإفراز بعض المواد الكيميائية العطرية والتي تشعر بها النباتات المجاورة له فتأخذ احتياطاتها بإفراز مواد كيميائية على أسطحها تنفر الحشرات والأعداء من أكلها، ما هذا أليس ذلك ذكاء ومكر ودهاء، كيف تأتى لهذه الكائنات حبيسة مكانها والتي لا تتحرك أن تفكر في مثل هذه الطريقة للتواصل فيما بينها وكيف تحرص هذه الكائنات بعضها على بعض بطريقة يندر وجودها في عالم البشر؟!!.
كثير من النباتات التي أكتشف العلماء بأن لها هذه القدرة على التواصل بعضها مع بعض لدفع خطر الأعداء منها نبات التبغ البري وأشجار الأكاسيا والتي تفرز حامض التنيك ذو المذاق المنفر واللاذع لصد الحيوانات من تناولها، وإذا تجرأ حيوان وأكل من واحدة منها أرسلت الروائح الكيميائية على شكل استغاثة لباقي الأشجار التي على الفور تخرج من مخازنها كميات كبيرة من حامض التنيك المنفر.
هناك أيضاً من النباتات ما يمكن أن يطلق عليه مصاص الدماء أو آكل اللحوم، إنها نباتات تتغذى على الحشرات. ورقة النبات آكل الحشرات تتألف من جزأين قابلين للانطباق و لهما شعيرات تستجيب إلى اللمس، وتنطبق ورقة النبات آكل الحشرات على الحشرة عندما يتم لمس إحدى شعيراتها مرتين خلال فترة قصيرة جدًا، بما يمثل وسيلة لتلافي الاستجابة لأي لمسة قد تحدث مصادفة، ولكي يقوم النبات بهذا العمل يجب أن يكون قادرًا على تذكر اللمس، أي أن له ذاكرة وقدرة على استرجاع المعلومات والتعاطي معها.
النباتات تشعر بالزمن وتعمل من خلاله
كثيراً ما يتحدث الأطباء وحتى غير الأطباء عما يعرف بالساعة البيولوجية بداخل كل واحد منا، فمثلاً تتعود لأكثر من يوم بالاستيقاظ مبكراً عند صلاة الفجر وذلك بالاستعانة بمؤثر خارجي لتنبيهك للاستيقاظ في هذا الوقت بالذات ثم تجد نفسك بعد عدة أيام تستيقظ في نفس الموعد بدون منبه خارجي، هذا ببساطة مثال لما يسمى بالساعة البيولوجية. ويتأتى تشغيل هذه الساعة من خلال المؤثرات الضوئية إن كان ليلاً أو نهاراً، وقد وجد العلماء أن النباتات جميعها تستجيب وتتأثر بدورات الضوء من الظلام إلى ضوء الشمس الساطع ويستجيب أيضًا للمواد الكيميائية التي تنطلق في الجو، ويستجيب للمس بعض أجزائه، فيسلك سلوكًا معينًا.
في مطلع القرن الثامن عشر اكتشف “كارلوس لينابوس” – أحد علماء النبات من السويد-ما يمكن تسميته بالساعة البيولوجية النباتية، فقد لفت انتباهه أثناء مروره بإحدى حدائق مدينة أوبسالا في السويد أن أحواضًا من الأزهار تنغلق أزهارها تماماً بحلول الليل وتتفتح مع طلوع النهار، بل يوشك تنوعها، واختلاف يقظتها ومنامها أن يحدد كل ساعة من ساعات الليل، وكل ميقات من مواقيت النهار! فزهرة “التورش” الشوكية تنغلق على نفسها عند منتصف الليل! ونبتة الدخينة تتفتح أزهارها في تمام الساعة الرابعة لدى مطلع الفجر.
وزهرة القطيفة تتنفس في السابعة صباحًا، مع إشراقه الشمس. وفي الثانية عشرة ظهرًا تتفتح زهرة الآلام! وفي الثانية بعد الظهر تمضي زهرة الثعلب لتنام، وبعد ساعة واحدة، في الثالثة تمامًا تلحق بها زهرة فم الصقر لتنغلق على نفسها وتنشد الراحة والاستجمام. وهناك نبات عشبة العين الزرقاء التي تنتمي إلى فصيلة السوسن والتي، في كل يوم، يموت بعض أزهارها إذا أقبل المساء، بينما تنتعش زهيرات منها وتتولد وتتجدد عند شروق الصباح! وإذا كان في النبات ذلك الإحساس بالزمن فلا بد أن يكون له مخ وأعصاب !!.
النبات طبيباً
إنها قصة تستحق أن تروى، فقد ورد بموقع “باكيارد جارديان” بتاريخ 7 أغسطس عام 2002، ما مفاده أن بعض، الباحثين العاملين في مركز مراقبة الأجواء الأمريكي شعروا بالدهشة عندما اكتشفوا أنّ النباتات “المريضة” تنتج مادة كيميائية شبيهة بالأسبرين، يمكن العثور عليها في الجوّ المحيط بالنبات، ويمكن لهذه المادة أن تكون جزءاً من نظام مناعة تساعد على حماية النباتات، وفق ترجيحات الباحثين.
ويزيد الاكتشاف من احتمالات أن يصبح المزارعون قادرين، بفضل ملاحظة هذه المادة، على مراقبة “صحة” نباتاتهم في المراحل المبكرة من إصابتها بعوارض إصابتها بتغيّر مناخي أو غزو من الحشرات أو غيرهما، وحتى الساعة، ليس بإمكان المزارعين التأكد من وجود مناخ غير صحي يحيط بنباتاتهم إلا بملاحظة مؤشرات يمكن رؤيتها بالعين المجردة مثل أغصان أو ألياف ميتة. وقال الباحث “توماس كارل”: على خلاف البشر، الذين يتمّ توجيههم بتناول الأسبرين كمضاد للحمى، فالنباتات قادرة على إنتاج أسبيرينها، بواسطة إفراز بروتينات تعزّز النظام البيوكيميائي الدفاعي، وبالتالي تخفيف الإصابة. إن عمليات القياس التي أجريناها تظهر كميات مهمة من المادة الكيميائية حيث يمكن العثور عليها في الأجواء المحيطة بنباتات توجد في مناخ غير صحي.
وفي الوقت الذي أيقن فيه الباحثون أنّ النباتات أنتجت في المختبرات شكلا من الأسبرين يعرف باسم “ميثيل ساليسيليت” غير أنّهم لم يبحثوا عنه مطلقا في الغابة أو المزارع. غير أنّ الباحثين أيضاً، عندما أقاموا نظام قياس في مزرعة في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، بهدف مراقبة الانبعاثات الصادرة عن النباتات الموجودة هناك والتي يمكن أن تلوّث البيئة، عثروا على كميات مهمة من مادة “الاسبرين النباتي.”
كما سبق لدراسات مماثلة خلصت إلى أنّ النباتات التي تتناولها الحيوانات، تنتج بدورها مواد كيميائية يمكن أن تستشعرها النباتات القريبة منها. وتمّ العثور على هذه المادة في أجواء مزرعة تعرضت نباتاتها لتغيرات في الطقس حيث تراوحت بين برودة في الليل أعقبتها زيادات كبيرة في درجات الحرارة أثناء النهار. وزيادة على
الحصول على وظيفة تشبه النظام الدفاعي، يمكن للمادة الكيميائية أن تكون طريقة تستخدمها النباتات للتواصل مع جيرانها، وبالتالي تحذيرهم من تهديد ماثل. وقال الباحث ألكس جونثر إنّ النتائج تقودنا إلى الحصول على دليل يثبت تواصل النباتات بين بعضها البعض. إنه عالم عظيم مليء بالعجائب العلم الحديث لم يصنعها فهى موجودة منذ بداية الخلق هم فقط اكتشفوها او مكنهم الله من رؤيتها قال تعالى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فصلت 53.