القاهر و الظافر و التعليم و الجهل

كتب : مدحت كمال الدين

احتفل الوطنيين فى مصر بذكرى رحيل الرئيس جمال عبدالناصر و هى مناسبة حزينة للمصريين الوطنيين بينما انتهز البعض الفرصة للسخرية من الرجل و ما حاول تحقيقه من نهضة فى الصناعة والزراعة و الاقتصاد و التعليم و توفير الخدمات الصحية لكل مواطن و واعادة مصر لدورها التاريخى كدولة قائدة فى المنطقة .

 

 

ابرز ما قرأت هو تهكم الكثيرين من منتقدى عبدالناصر على صواريخ القاهر و الظافر باسلوب يدل على جهل شامل بمراحل صناعة الطائرات و الصواريخ, و الحقيقة هم معذورين لهذا قررت كتابة هذا المقال لاوضح مراحل تصميم و اختبارات الطائرات والصواريخ و غيرها من المركبات و المعدات الميكانيكية و الالكترونية المعقدة.

 

 

فى مصر دراستنا لبعض فروع الهندسة دراسة اكاديمية نظرية بحتة مثل هندسة الطيران و الهندسة النووية والالكترونية والكيميائية بعكس مثلا الهندسة المدنية و المعمارية لان الناحية العملية فى هذين الفرعين الى حد كبير متوفر بينما افرع الهندسة الاخرى الناحية العملية غير متاحة, لاسباب معروفة و هى تخلفنا فى هذه المجالات و عدم وجود خبرة فى مصر فى تصميم المعدات الميكانيكية و فهم لمراحل التصميم و الاختبارات المختلفة و المواصفات العالمية التى يجب على التصميم ان يلتزم بها. اقصى ما نفعله فى مصر هو تجميع معدات ميكانيكية تم تصميمها فى الخارج و تم اختبار التصميم و اثبات ان التصميم مطابق للمواصفات.

 

عند تصميم صاروخ او طائرة, يتم تحديد مواصفاتها مثل المدى والسرعة و الحمولة و الوزن الاجمالى و الوقود و كذلك مواصفات المحركات و بقية النظم Systems التى تتكون منها الطائرة او الصاروخ و مواصفات كثيرة تكون ضمن عدة مجلدات. بالنسبة للطائرات المدنية عليها ان تلتزم بشروط الاداء والسلامة و ان تثبت انها مستوفية لهذه الشروط. هذه الشروط مشتركة الى حد كبير بين هيئات الطيران المدنى فى معظم الدول سواء كانت وكالة الطيران الفيدرالية الامريكية FAA و هى الاشهر و هناك ايضا ال EASA و هى وكالة الطيران الاوروبية و هناك وكالات طيران فى جميع الدول حتى فى مصر, مصلحة الطيران المدنى, و هذه الوكالات تعتمد اى طراز جديد و تقر بسلامة التصميم و بالتالى يسمح للطراز بالتحليق فى سماء هذه الدول. اما بالنسبة للطائرات الحربية, فتخضع للمواصفات العسكرية Military Specifications والتى قد تكون مختلفة تمام عن مواصفات الطائرات المدنية. نفس الشيئ بالنسبة للصواريخ, فهناك صواريخ للاستخدامات الحربية و اخرى للاستخدامات المدنية لاطلاق الاقمار الصناعية المستخدمة فى البث التليفيزيونى او الزراعة او الارصاد او غيرها من الاستخدامات المدنية و لكل منهم مواصفاته المختلفة.

 

يبدأ تصميم الطائرة او الصاروخ و بعد عدة شهور, حوالى 6 اشهر, يعقد اول اجتماع يضم ممثلى الشركات المساهمة فى المشروع و يسمى Preliminary Design Review (PDR) يقدم كل مهندس او فريق من المهندسين تصميمه المبدئى لل System المكلف بتصميمها. يتم استعراض قيم تفاصيل التصميم Design Parameters و مناقشة اذا كانت معقولة او مخالفة للمواصفات و اذا كان هناك اى خطأ فى الحسابات او الافتراضات Design Assumptions و يتم الموافقة على اى اجراءات لتصحيح اى اخطاء او افتراضات فى التصميم. مش عيب ولا مشكلة ان يكون فيه خطأ فى التصميم والحسابات, لهذا السبب يعقد ال Preliminary Design Review للبحث عن الاخطاء و للتأكد من ان التصميم سيحقق اهدافه و يسير كما هو مطلوب لتحقيق الهدف من التصميم. و يعود كل المشتركين فى ال PDR الى مواقعهم لاستيفاء ما تم الاتفاق عليه و الاستمرار فى المرحلة التالية للتصميم

 

المرحلة التالية للتصميم تسمى Detailed Design حيث يتم تصميم بدقة كل شيئ سواء كانت مقاسات على الرسومات و مواصفات التصنيع و الاختبارات التى يجب اجراءها لاعتماد الجزء المصمم و تسمى Acceptance Tests و تنتهى هذه المرحلة باجتماع موسع آخر تحضره جميع الاطراف المشتركة فى المشروع سواء كانت طائرة او صاروخ او غواصة او حاملة طائرات, و يسمى هذا الاجتماع Critical Design Review (CDR) يتم اعتماد التصميم و قد تكون هناك ملاحظات نهائية يجب ان يتضمنها التصميم و تراجع الحسابات و افتراضات التصميم مرة اخرى للتأكد من صحتها و معقوليتها ثم يسمح بصناعة اجزاء الطائرة او الصاروخ و يسمى هذا Hardware procurement . و يتم تصنيع الاجزاء التى تكون كل System , و هنا تبدأ المشاكل بعد تصنيع الاجزاء…

 

 

يتم اجراء سلسلة من الاختبارات فى مرحلة تسمى Development Testing على الاجزاء المجمعة او ال Systems للاسف كلمة Development Testing ليس لها مرادف بالعربى – فى مرحلة ال Development Testing تظهر مشاكل التصميم لان حتى هذه المرحلة التصميم كله حسابات, و لكن فى التصميمات المعقدة خصوصا للطائرات و الصواريخ التى تعمل على سرعات عالية تفوق سرعة الصوت عدة مرات و عندها تحدث ظواهر كثيرة بسبب انضغاط الهواء Compressibility ممكن تسبب مشاكل الطيران قد تأدى لسقوط الطائرة فى مرحلة التجارب و تاريخ الطيران ملئ بمشاريع طائرات تسببت فى موت طيارين الاختبار يطلق عليهم Widow Makers و لكن هذه الحوادث لم تثنى الحكومات او الشركات المصنعة عن البحث عن اسباب سقوط الطائرة و العمل الدؤوب لحل المشكلة و من اشهر هذه الحوادث الطائرة الكوميت اول طائرة ركاب نفاثة فى العالم, و دائما يصلوا لحل المشكلة – كل هذا العمل يأديه مهندسين مدنيين و لكن العسكريين من البنتاجون هم مهندسين ايضا لهم اراء تأخذ فى الاعتبار, فالعسكريين الامريكيين متعلمين و حاصلين على شهادات تكافئ الشهادات الجامعية من الاكاديميات العسكرية المختلفة علاوة على العلوم العسكرية, و هو نفس منهج الكلية الفنية العسكرية حتى فترة قريبة.

 

 

فترة ال Development Testing قد تستغرق عدة سنوات, فالبوينج 787 استغرقت ثلاث سنوات لحل مشاكل التصميم.

 

بعد انتهاء ال Development Testing تبدأ آخر مرحلة و هى ال Certification Testing حيث تتم اختبارات لتثبت ان ال Systems المختلفة تأدى وظائفها كما هو مطلوب منها و مطابقة للمواصفات وان ال Systems المختلفة تعمل معا بكفاءة و هو ما يسمى Systems Integration و بعد هذه المرحلة تعتمد نتائج التجارب و يسمح بتصنيع الطائرة او الصاروخ و تستغرق هذه المراحل فى المتوسط 5 سنوات –

 

القاهر و الظافر كانا فى نهاية مرحلة التصميم على يد المهندسين الالمان يعاونهم مهندسين مصريين يتعلموا منهم- هؤلاء الالمان من الذين اشتركوا فى صناعة الصاروخ الالمانى V-2 و لكن لم يدخلوا مرحلة ال Development Testing مع القاهر و الظافر- للاسف كان هناك استعجال لاعلان قصص النجاح و لكن لو كان المشروع مر بالمراحل الطبيعية لاى تصميم ناجح كان تم التعامل مع مشاكل التصميم التى هى شيئ عادى جدا فى كل المشاريع هنا – لقد عملت على كثير من المشاريع و كلها واجهت مشاكل, ليس بسبب تقصير انما هذه هى طبيعة التصميمات الميكانيكية المعقدة مثل تصميمات الطائرات و الصواريخ, و يتم التعامل مع هذه المشاكل بمنتهى الاصرار و المثابرة و العمل كفريق لحل هذه المشاكل.

 

من مشاكلنا فى مصر ان التعليم الهندسى يعتمد على النظرى و يتجاهل الجزء العملى و هو مهم جدا فى تخريج مهنسين قادرين على العمل فى مشاريع معقدة و متداخلة – و لكن المشكلة الاكبر فى موضوع قاهر و ظافر هو انه لم تكن هناك اى فكرة عن مراحل ادارة المشاريع و لم تتبع و كان هناك عنصر تعجل لاظهار قصة نجاح صناعة الصواريخ فى مصر متجاهلين ال Development Testing لحل مشاكل التوجيه -عملت على منظومة توجيه احد الصواريخ و كنا نواجه مشاكل كثيرة جدا خصوصا ان ما كان يحدث فى الفضاء لم نكن قادرين على اننا نخلق نفس ظروف الفضاء على الارض فى المعمل لحل المشكلة التى كان ينتج عنها خروج الصاروخ عن مساره. لم تستسلم وزارة الدفاع ولا مهندسى الشركة و تم حل المشكلة بعد عدة تجارب اطلاق مكلفة منيت بالفشل. نحن فى مصر لا نقبل الفشل بينما التجربة و الخطأ والفشل عوامل اساسية فى اكتساب الخبرات.

 

علينا ان نعيد النظر فى تدريس الهندسة خصوصا فروع الهندسة المتقدمة و ان نخفف من النظرى و نركز على الخبرات العملية – علينا ان نتوسع فى الهندسة العكسية Reverse Engineering لنكتسب خبرات كثيرة نفتقدها – علينا ان نتعلم و نطبق علم ادارة المشاريع Project Management و هو ليس مجرد كتاب نقرأه انما ادارة المشاريع هو مزيج من مهارات كثيرة يكتسبها المهندس من مشاهدة مديرى المشاريع و كيف يتعاملوا مع المواقف المختلفة – و اخيرا و ليس آخرا, ان اى عمل ناجح يعتمد على العمل كفريق, لا يوجد شخص فذ عبقرى ممكن ان يدير مشروع بمفرده, المشاريع الناجحة تنجح لان الكل بذل اقصى ما فى وسعه و كل فرد فى المشروع مهما كان دوره متواضع Is Greatly Appreciated and Recognized

عن هاني سلام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.