ما إن نحاول موضعة قضية المرأة بكونها أس في الفكر العربي الإسلامي إلا واجهتنا صعوبات جلية بالبحث لكثرة تشعبها وتعقيدها.باعتبارها مسألة ديناميكية تتطور داخليا بتفاعلها الذاتي وخارجيا من خلال المسار التاريخي والسيسيولوجي المتجدد.
وقد مثل مبحث جدلية الاعتراف بإنسانية المرأة مطلبا ملحا بلغ التفكير فيه أوجه خاصة خلال القرون الأخيرة في العالم العربي ,ورغم التغير البارز الذي شهدته نحو مرتبة يمكن أن تكون أفضل من التي كانت عليها سابقا تحت ضغوط المنظمات الحقوقية العالمية والعربية والتي أكدت أن النساء كان لهن مساهمة جلية في الدفاع عن حقوق المرأة خاصة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين, فإن السؤال يبقى قائما خاصة لو عالجنا هذه المسألة في خضم تحديات العصر وتقدم المنجزات الغربية . ولجلي بالذكر أن ذلك لم يكن كافيا وكلف رواده عناء كبيرا لأنه مثل خروجا عن الأنظمة السائدة على تنوعها في العالم العربي. وأثار مماحكات جدالية عنيفة في غالب الأحيان أمام هذا التناقض الصارخ لهذا الواقع.
إن تدبر ظاهرة الجدل القائم حول الاعتراف بإنسانية المرأة بين التوجهات والانتماءات المختلفة أو بين الرجل والمرأة في حد ذاته في العالم الإسلامي لا يزال محل دراسة ونقد ,
لذلك سنعمل على زحزحت التساؤلات المتداولة نحو أرضية طالما تم تجاهلها وطمسها في خانة اللا مفكر فيه عن طريق القول إن المرأة العربية لها مكانة مثالية في الإسلام وتكريمها يتطلب منها الطاعة. هذه المسلمات التي نسمعها عند الحديث عن حقوق المرأة في الإسلام خاصة أنها مثلت حجج المناضلين السياسيين من المسلمين عند حديثهم عن “النموذج الإسلامي لحقوق” الإنسان كما قال محمد أركون. وكثيرا ما نسمع أطرافا تتحدث عن المكانة المتدنية للمرأة في الإسلام سواء من المفكرين العرب أو الغرب. هذه المعطيات والأحكام تمنعنا من رؤية البعد التكويني والطبيعي للمرأة.
انطلاقا مما تقدم وجب علينا العودة إلى التاريخ وتفكيك المنطق الذي يحكم التفافة العربية والمنهجية المتبعة في تصنيف الأحكام وتبويبها. من خلال إعادة النظر في الخطابات المشكلة للثقافة والكشف عن الأسئلة المطموسة في دائرة المستحيل لمعالجة هذا الجدل القائم بإتباع مقاربة نقدية موضوعية.
قبل نزول القرآن كانت المنطقة العربية يحكمها قانون بدوي يخضع للقوة يضبطه منطق داخلي. وتعد العلاقة الزوجية من أكثر النماذج التي يمكن أن نعتمد عليها لنتبين مكانة المرأة قديما. ومن المعروف أنها محكومة بعادات وتقاليد من خلالها تقنن العلاقات الجنسية وتضبط بمنطق”العرض أو “الشرف”.
فنجد أن المرأة تمر من عشيرة إلى أخرى بعقد زواج. وما يهمنا هو ما كان مهيمنا على متخيل الجماعة. إن ما تمليه علينا البنية الاجتماعية أن الرجل يعامل زوجته وفق ما تمليه عليه الثقافة الذكورية التي كانت سائدة لأنها كانت تؤمن بالتمييز بين الرجل والمرأة. وبتحليل البنية الاجتماعية يتضح لنا هيمنة البعد الجنساني عند القدامى وتركيزهم على جانب الاستمتاع بالمرأة بدل حسن المعاشرة. كما تقاس قيمة مهرها بمدى قدرتها على الإنجاب , فمهر المرأة الولود يفوق مهر المرأة الغير قادرة على الإنجاب. والجدير بالذكر إن كل العالم قد تبنى “أسطورة الرجولة” كما قال البعض ولم تكن مقتصرة على الثقافة العربية.
لم تكن المرأة قديما تدافع عن وجودها ولم تكن تعرف حقوقها, ومن خلال تحليل بعض الأساطير والعادات والطقوس الدينية تتضح لنا مكانة المرأة الاجتماعية المهمة من خلال الدور الموكول إليها. وتمارس وجودها حسب البنية الثقافية المتعارف عليها في تلك الفترة. وتدخل مؤسسة الزواج بجسدها فتتحول إلى بضاعة وأن الرجل يدخلها بماله ونفوذه على حد تعبير الباحثة آمال قرامي. وإن أكبر مميزاتها الخصب والإنجاب. وتزداد قيمة وأهمية بين قومها عندما تنجب ولدا يرث نظام هذه العشيرة, لذلك نسبت الثقافة العالمة كل الصفات الدالة على الحياة والقوة للرجل ونلاحظ هنا أن المرأة تصنف ضمن نظام تراتبي لتتحول في المتخيل الجمعي إلى أداة متعة للرجل ووعاء للولد. فيعمل الخطاب في المنظومة الثقافية على ترسيخ الفرق بين الرجل والمرأة, الذكورة تساوي الغلبة والشدة والتحكم والأنوثة تساوي اللين والرقة. وعليه تأسست قاعدة التمييز في الذاكرة الجماعية. ولا نكتفي بما نقله التراث لخلق هذا التمايز بين الرجل والمرأة ذلك أن الدراسات الحديثة والوقائع اليومية غنية برسم الوضع الذي كانت عليه .
مثلت المرأة في المجتمع كائن ضعيف وجب حمايته بجملة من العادات والتقاليد بدافع الرغبة في السيطرة الجنسية على المرأة والتحكم فيها وفي هذا الإطار تفقد المرأة حريتها وتخضع لسيطرة حتى في حياتها الخاصة من بينها تشويه الأعضاء التناسلية للإناث وهي ليست عادة مقتصرة على أصحاب دين معين فهي أقدم من المسيحية والإسلام. وأصبح مثل هذه الممارسات التقليدية مطروحة للبحث في الحركات النسائية في عقدي الثمانينات والتسعينات في البلدان التي تمارس فيها هذه التقاليد مدفوعة بأنشطة المنظمات الغير حكومية بهدف التصدي لهذه الظواهر.
ونجد أيضا القتل لغاية الدفاع عن الشرف التي وصلت في المجتمعات الإسلامية غايتها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وغرب آسيا كما توجد أنماط مماثلة في الشرق الأوسط وتنطوي تحته كثير من الجدال. وقد كانت المادة 340 من قانون العقوبات الأردني تعطي العذر للرجل الذي يقتل زوجته أو قريبته إذا تبين أنها أزنت..والأمثلة على ذلك كثيرة.
هذه الممارسات تميط اللثام عن البنية الاجتماعية التراتبة التي كان يخضع إليها المجتمع العربي قديما. فينطلق من نقطة مركزية أساسها الاختلاف بين الرجل والمرأة الذي ستبنى عليه ثقافة أخرى أكثر تعقيدا وعد مبحثا لتشكيل السلطة مهما كانت قيمتها. هذه المكونات السيكولوجية هي التي تخلق نماذج الذكورة والأنوثة في المجتمع.وأكدت الدراسات الجندرية أن المجتمع هو الذي يشكل الاختلاف بين الذكورة والأنوثة. وولد ثقافة منغلقة جامدة وفكر تسليمي تواكلي.
هذه المجريات الفكرية التي قدمناها هي التي مثلت أرضية خصبة لإعادة تشكيل العلاقة بين الرجل والمرأة في ظل عديد التطورات التي مر بها النسق الاجتماعي تمثلت في نزول القرآن وصولا إلى المنجزات التي طرأت على العقل العربي, سواء من داخله أو خارجا عنه في العصر الحديث.غير أن السؤال المطروح هو إلى أي مدى كانت هذه القوانين الجديدة فعالة في تغيير آليات اشتغال البنى الفكرية للعقل العربي؟
من الجلي أن الماضي لا ينفصل عن الحاضر بفعل التثاقف والتأثر بالماضي فعل تاريخي لا يمكن إنكاره, ذلك أن البنية الثقافية للعالم العربي تسير وفق نظام تسلسلي يربط الماضي بالحاضر وينقل معه أشكال العنف الاجتماعي. بذلك نجد أن المحزون الاجتماعي يكرس لصورة نمطية للمرأة العربية وهذه القوانين تقدم نفسها على أنها تحول جذري لصورتها. لكنها في الحقيقة تكرار لتلك الظاهرة المتمثلة في إعادة صياغة النظام الاجتماعي الجديد يتمحور حول الذكر. ويمكن المرأة من الانخراط في الايدولوجيا الذكورية. هذه الأسس تهدي المرأة مجموعة من الصور النمطية لا يمكن لها أن تتصرف خارج هذا الايطار وبالتالي فعليها أن تكون تابعة للرجل. هذا ما أطلقت عليه الناقدة خالدة سعيد ب الاغتراب المزدوج.
وترجع هذه الوضعية إلى الموروث الاجتماعي والثقافي الذي يمثل واقعا اجتماعيا قاهرا على حد تعبير دوركايم. فالمرأة في العصر الحديث لا زالت تتخبط في غضون التقليد وإن خرجت من المحيط الضيق إلى ممارسة حياتها الاجتماعية والعملية إلا أنها لم تخرج من التمثلات التقليدية ذات البعد الواحد.ذلك أن المجتمع لا يزال خاضعا لنظام أبوي مستحدث أدى إلى إخضاعها لتلك الصورة النمطية بل مثلت قوالب جاهزة لموروث اجتماعي ينتج نفسه بذات الخطاب الذي مورس عليها ورسخت في أذهان الأجيال المتعاقبة قاعدة التميز بين الرجل والمرأة.
بمعنى أن نساء العالم العربي مازلن يتخبطن في طبقات من التخلف والسبب في ذلك المرأة أولا فالمضطهد يتبنى عقلية المضطهد ويستمرىء العبودية ويدافع عنها ولم ترتقي آليات الدفاع عن المرأة عن فكرة أساسية مفادها إن حقوق المرأة هي دفاع عن حقوق الإنسان رغم محاولات ترسيخها في المجتمع لكن الواقع ينم عن تعرض المرأة لنوعين من الاضطهاد, الاضطهاد كإنسان واضطهاد آخر من المجتمع.
فنجد أن الإسلام أصبح غطاء لممارسات القمع ومصادرة الحريات وبناء عقلية الاختلاف القائم على التمييز والإعلاء من طرف على حساب أخر. وبتتبع مسار هذا الخطاب الديني تتبين أنها من وحي المخزون الاجتماعي والمعتقدات التي كانت سائدة مما يجعل الخطاب تعبير عن تدين شعبي لا عن دين إسلامي.
وهو ما يؤكد أسباب عدم حل هذا الجدل عبر الزمن. وبنيت في النظام الاجتماعي على أنها أصل الطبيعة وليس أثرا من آثار الثقافة وليد نمط وظروف معينة فتواصل امتداد هذه الفكرة ولكن بأسلوب تحديثي يحمل نفس المضمون وكانت عاجزة عن إحياء الفكر العربي وتجديده من خلال إعادة رسكلة تلك العادات التي كانت تمارس في القديم لتصبح جزء من الثقافة والعقيدة برتبة مقدسة. فالتحفت بجبة المقدس واستقوت بجملة من التعاليم الدينية لتترسخ في الذاكرة.
والفرق بين الأمس واليوم هو الوضعية المتغيرة للمرأة كانت موجودة بجسدها فقط إلى أن تمكنت من الدخول في جميع مجالات الحياة. ومن هنا تتعمق الإشكالية للطرفين على حد السواء. فرغم التسارع الزمني والحداثة والثورات التي طرأت على العالم مازالت المرأة تعاني من نظرة المجتمع القاصرة والمرتكزة على جسدها.
بل وأسهم هذا التقدم في اغترابها لارتكازه على أسس متناقضة رافقت التطور التاريخي والثقافي لتتحول إلى قوانين مقدسة عند الجماعة ومحاولة التمرد عن هذه الأفكار هو تمرد وخروج عن المجموعة وقوانينها فتصبح العادة سلطان مسيج بتعاليم دينية نسبت إلى الدين الإسلامي بفعل المؤسسات التشريعية والفقهية التي عمدت إلى القيام بقراءة حرفية انتقائية للنص الديني وسعوا إلى ترسيخ معايير تحدد الذكورة وتقلل من شأن المرأة تكون فيه أقرب إلى الوضاعة والضعف. بمعنى أن هذا الجدل الحاصل يقنن سلوك المرأة بمجموعة من القوانين الوضعية ذات الصبغة الذكورية تسلط عليها فتخرجها من النموذج التقليدي إلى المرأة الفاعلة في المجتمع. لكنها تبقى أسيرة أنظمة اجتماعية تواكلية.
ضمن هذه المنظورات نلاحظ أن هذه المفاهيم قد غذت المخيال الشعبي وهذه الصورة المكرسة في الذهن “إنما هي نتيجة لعبة نتعلم قواعدها منذ المهد “كما قال سليم دولة. وتعكس هذه النظرة قيم المجتمع وأنساقه فنجد أن المجتمع العربي يعيش على أعتاب التاريخ والثقافات المتوارثة دون إعادة النظر في ضوابطها ودون مراعاة للسيرورة التاريخية. والسبب في ذلك هو الأحكام التي تنسب للدين الإسلامي واستغلاله لغايات تعود بالأساس إلى الرغبة في السلطة وبات من الضروري خلع أسدال التقديس على الهياكل التقليدية التي تنسب للدين وهو ما يستوجب إعادة النظر في هذه الإحكام ومدى تطبيقها للقانون الإسلامي.
لأنها أسهمت في تعمق هذه الأزمة ومواصلة هذا الجدال محكوم بمدى الاعتراف بإنسانية المرأة.
عطاف بالحاج
تونس