أ. د الهلالى الشربينى الهلالى يكتب:
يرتبط وجود المعرفة منذ القدم بوجود الإنسان، إلا أن المعرفة لم تتطور وتزداد قيمتها وتتعاظم فوائدها إلا بعد ظهور الإنسان المتعلم المبدع واتساع مداركه وفهمه لظواهر الكون والحياة وما ارتبط بها من ثورات علمية ومستحدثات تكنولوجية كان لها ولا يزال أكبر الأثر على حياة الإنسان؛ فالثروات كانت في باطن الأرض منذ آلاف السنين ، كما أن الشمس والرياح والأنهار كانت موجودة منذ بدء الخليقة ولكنها لم تستغل أو تتحول إلى طاقة إلا بعد ظهور ذلك الإنسان، ومن هنا تتضح أهمية رأس المال المعرفى ودوره في تنمية الاقتصاد وتراكم الثروات والارتقاء بمعيشة الناس، هذا بالإضافة إلى أن تطور مفهومالعولمة قد أدى إلى انتشار تجارة المعرفة حتى صارت تجارة رابحة وبات تجار المعرفة هم الأوفر حظًا في العالم ، وفى هذا السياق وجدت المجتمعات الإنسانية نفسها في حاجة ماسة للتحول من الحالة التقليدية التي ألفتها لسنين طوال إلى مجتمعات معرفية تتميز بالحيوية والقدرة على التغيير والتعامل مع تدفق المعارف والمعلومات وانتقالها وتداولها وتوظيفها.
وقد مر مفهوم مجتمع المعرفة بعدة مراحل امتدت المرحلة الأولى منها في الفترة من بداية سبعينيات القرن الماضى حتى بداية التسعينيات من ذات القرن؛ وشهدت طفرة في مجال الاتصالات وتطوير واستخدام تكنولوجيا المعلومات، أما المرحلة الثانية فقد امتدت فى الفترة من بداية تسعينيات القرن الماضى حتى بداية الألفية الثالثة وهى الفترة التي ترسخ فيها مفهوم العولمةبشكله المتوحش الجديد بفعل توقيع الاتفاقية العامة للتجارة في الخدمات GATS وتراكم تكنولوجيا المعلومات وتضخم الشبكات وظهور الفجوة الرقمية بين المجتمعات، وأما المرحلة الثالثة فقد جاءت مع انتشار الانترنت واستخدامها في كل أنشطة الحياة وظهور الحاجة إلى تنظيمات اجتماعية وتشريعات قانونية تحمى الهوية الوطنية والإبداع والأخلاق والقيم والأديان وغيرها .
وبصفة عامة تمثل المعرفة انعكاسًا لآخر ما توصل إليه العقل البشرى من إبداعات، كما أنها تمثل أيضًا مفاضلة وانتقاءً من الانفجار المتدفق بغير حدود للمعلومات في إطار من الفكر الإنسانى ومتطلبات المستقبل، وهى تمثل أيضًا مزيجًا من المعلومات التراكمية التي يمكن توظيفها لتحقيق أهداف معينة في كل مناحى الحياة، وعلى ذلك فالمعرفة لم تعد هدفًا في حد ذاتها طبقًا للرؤية التقليدية للمعرفة التي طالما أكدت على أن إنتاج المعرفة يكون لأجل المعرفة. ويمكن الحكم على تحول أي مجتمع إلى مجتمع معرفة عندما يمتلك رؤية استشرافية شمولية للتغيير، وعندما يتمتع بقيادة سياسية وإدارية تحويلية قادرة على صنع واتخاذ قرارات تشجع الإبداع وانتاج المعرفة وتداولها وتوظيفها، وكذلك عندما يصبح رأس المال المعرفى المصدر الأساسى لقوة المجتمع وتقدمه الاقتصادى والثقافى والسياسى والارتقاء بمستوى معيشة أفراده؛ من منطلق أن المعرفة بفعل ثورة الاتصالات والمعلومات باتت هى العنصر الفاعل والمصدر الحقيقى لتحقيق الثروة والقوة.
لقد ظل العالم لسنوات طوال يعتقد أن الاستثمار الحقيقى هو الاستثمار في رأس المال المادى ، وكانت النظرة للتعليم تنحصر في كونه نوعًا من أنواع الاستهلاك الذى ينقص الثروة ، ولكن مع تتابع الثورات العلمية والصناعية والتكنولوجية وتطبيق مبادئ اتفاقية التجارة العالمية على الخدمات في عام 1995 تعمق فهم الاقتصاديين لموضوع التعليم واتضح لهم أن المعرفة صارت سلعًا تباع وتشترى ، وأن الاستثمار في التعليم كسبيل لتكوين رأس المال المعرفى القادر على إنتاج المعرفة وتوظيفها بات يلعب الدور الجوهرى في زيادة الثروة والقوة، من منطلق أن المعرفة أصبحت هى الآلية الأقوى لتحقيق مستوى أعلى من القيم المضافة والميزات التنافسية، وأن من يمتلكها ويمتلك القدرة على توظيفها يكون هو الأقدر على الاختيار والقيادة واتخاذ القرار ، وتطبيق مفهوم حرية الأفراد والمجتمعات في الحصول على المعرفة من منظوره الخاص.
وفى ظل هذا التحول الهائل بات رأس المال المعرفى المكون الجوهرى فى تكوين مجتمعات المعرفة وتوليد الثروة والقوة ، كما بات قطاع التعليم اللاعب الأكثر أهمية في تحقيق هذا الهدف من خلال إعداده للأجيال الجديدة للتعامل مع المعرفة انتاجًا وتوظيفًا في إطار بيئات تتسم بالتمكين تمتد إلى المجتمع ككل بحيث يتمتع كل أفراده بالحرية وفرص المشاركة السياسية والمناخ الاقتصادى المحفز للإبداع والابتكار وعدم تهميش أي فئات بعينها، ومن ثم تُعلى من قيمة العقل البشرى والفكر الإنسانى والتفكير العلمى وقيم الحرية والعدالة والمساواة والديموقراطية والشفافية والمساءلة والحداثة والعقلانية.
وفى هذا السياق يرى من يمتلكون إنتاج المعرفة وتوظيفها وبالتبعية القوة والثروة أن الحرية العامة في الحصول على المعرفة ليس من الضرورى أن تمنح لكل المجتمعات لأن كثيرًا منها لا تمتلك القدرة على الاختيار واتخاذ القرار ، كما أن حرية التلقى التي غالبًا ما تمنح لمن ليس لديهم القدرة على الاختيار في مجالات مختلفةليس من الضرورى منحها للمجتمعات الضعيفة والفقيرة غير القادرة على الاختيار للحصول على المعرفة؛ نظرًا لأن المجتمعات التي تنتج المعرفة وتمتلكها وتوظفها غالبًا ما تنظر إلى بقية المجتمعات الأخرى على أنها مجتمعات استهلاكية ويجب حجب المعرفة الجديدة عنهم وعدم تقديمها لهم إلا عندما تبدأ في فقد أهميتها وذلك لتحقيق عائد من ورائها قبل أن تفقد كامل قيمتها.
وتتميز المعرفة عن رأس المال المادى؛ حيث إنها صعبة القياس، وليس لها وطن، وبمجرد إنتاجها يسهل نسخها ونقلها وتداولها وإعادة إنتاجها بأقل التكاليف، هذا بالإضافة إلى أنها إنسانية بمعنى أنها تميز الإنسان عن باقى الكائنات الحية الأخرى؛ فهو الذى ينتجها وينقلها ويستخدمها ويجددها، وهى تراكمية بمعنى أنها تتوالد وتتراكم على امتداد فترات زمنية طويلة نسبيًا، وهى كذلك مكتسبة لأن الإنسان يولد لا يعرف شيئا ثم يبدأ في اكتسابها بالتدريج، ومن هنا فصناع المعرفة في أي مجتمع يمثلون كتلة حرجة في إنتاج المعرفة وتقدم ذلك المجتمع.
ولا تكمن قيمة المنتجات في مجتمعات المعرفة في المواد الخام المستخدمة ، ولا في قوة العمل ورأس المال المنفق ، ولكن في المعرفة التي تكمن في المنتج النهائي وتمثل مصدر الإنتاج الأول بدلاً من كل ما سبق، وبذلك تعد المعرفة – اكتسابًا وإنتاجاً وتوطينًا وتوظيفًا – أداة وغاية للمجتمع ككل من منطلق أنها قوة وثروة في آن واحد؛ فهى قوة بوصفها المورد الأكثر أهمية في ظل ثورة المعلومات ، وهى ثروة بوصفها مورد أكثر أهمية من بقية الموارد الأخرى وكونها الأداة الفاعلة في تكوين وإيجاد القيمة المضافة، وأنها المورد الوحيد الذى لا يخضع لقانون تناقص الغلة، ولا تعانى من مشكلة الندرة باعتبارها مورد يبنى بالتراكم ولا يتناقص بالاستخدام ، بل على العكس يمكن استخدامها في توليد وتطوير أفكار جديدة بكلفة أقل أو بدون تكلفة إضافية .
ومن هنا يمكن القول بأن العنصر الحاسم في القرن الحالي سيتمثل في الإنسان القادر على مواصلة التعلم وتوظيف ما يتعلمه، وأن المعرفة ستستمر في توليد الثروة والقوة ، وستصبح الأمة العارفة هي الأمة القوية الغنية أما الأمة التي تتخلف عن الاستثمار المعرفى فلن يكون هناك مفر من وقوعها في مخالب العولمة بما تتضمنه من قولبة ثقافية واقتصادية تجعل منها أسواقًا للاستهلاك أكثر منها أماكن للإنتاج، وفى هذا الإطار يصبح مفهوم الاستثمار المعرفى جزءًا من التنمية الاقتصادية من منطلق أن قيمةالموارد البشرية تزداد عن طريق الاستثمار فيها من خلال التعليم والتدريب نظرًا لما يمكن أن تحققه من معدلات نمو لا يمكن لأى نوع آخر من الاستثمار أن يحققها، ومن هنا يصبح رأس المال المعرفى لا يقل أهمية عن رأس المال المادي.
وقد كانت مؤسسات التعليم قبل توقيع اتفاقية الجاتس في عام 1995 تعتقد أنها بمنأى عن الأزمات والتحديات التي تعانى منها منظمات الأعمال باعتبارها ذات طبيعة مختلفة تبعدها عن تأثيرات السوق والمنافسة، هذا بالإضافة إلى كونها المصدر الذى ينتج المعرفة والعلم اللازمين لمواجهة مثل تلك الأزمات والتحديات التي ترتبط بقضايا مثل المحاسبية والتنافسية والتعلم مدى الحياة والمواءمة بين البحوث النظرية والمعملية والتطبيقية، ولكن الوضع بعد تلك الاتفاقية تغير ووجدت مؤسسات التعليم نفسها في عالم سريع التغير شديد التنافسية تطبق فيه مبادئ اتفاقية التجارة العالمية التي تطبق على السلع والتوريدات المادية، وأن جودة التعليم صارت تمثل ركيزة من الركائز الأساسية التى تقاس بها تنافسية الدول، كما أنها في ظل ترسخ مفهوم العولمة أصبحت تمثل برهانا على قدرة مؤسسات التعليم على التكيف مع البيئة المتغيرة لتحقيق ميزات تنافسية وقيم مضافة تمكنها من الدخول في معترك التنافسية العالمية.
وفى ضوء ما تقدم أصبح رأس المال في السنوات الأخيرة يتكون من بعدين أساسيين الأول هو رأس المال المادى المتمثل في المعدات والآلات وغيرها من أدوات الإنتاج الملموسة، والآخر يتمثل في رأس المال المعرفى المتمثل في المعرفة التي تمتلكها المؤسسة على الصعيد الفردى أو المؤسسى ومدى القدرة على توظيفها وتحويلها إلى منتجات معرفية، وفى ظل هذا الوضع أصبحت القيمة السوقية للمؤسسة تتحدد من خلال البعدين.
وفى ضوء ذلك وحيث إن مؤسسات التعليم تمثل مصانعًا لإنتاج الفكر واستهلاكه فإننى أرى أنها مطالبة بالمحافظة على ما لديها من رأس مال معرفى والعمل على تنميته من خلال دعم الموهوبين ورعايتهم وتطوير آليات لاكتشافهم ،وهذا الشيء لا يتأتى إلا من خلال قادة على درجة عالية من الوعى والفهم وإدراك الأهمية البالغة لإحداث التغيير من خلال أساليب ومداخل حديثة في الإدارة مثل الإدارة التحويلية والإدارة الاستراتيجية وغيرهما، واعتماد معايير للتميز والكفاءة والإبداع في إعداد الطلاب لمهام المستقبل، واعتماد مبادئ الديمقراطية وتكافؤ الفرص التعليمية، واعتماد مبدأ حرية التعبير والمشاركة في صناعة القرارات، وتقديم تعليم عال الجودة للجميع، ودعم تطوير التعلم عبر الإنترنت، وتسهيل التداول السريع للمعرفة العلمية، وبناء شراكات مع قطاع الأعمال والمجتمع المدنى، وتطوير نماذج أعمال جديدة حول الملكية الفكرية ، وإكساب المتعلمين القدرة على التعلم الذاتي، وتوفير مناخ داعم لتوظيف مستحدثات الثورة التكنولوجية في العملية التعليمية، والتركيز على تعلم اللغة الإنجليزية باعتبارها لغة العلم فى الوقت الحاضر، وتطوير المناهج التعليمية بحيث تدفع الطلاب للاستكشاف والتأمل والتعلم الذاتي هذا بالإضافة إلى ربط المحتوى التعليمى بواقع المتعلم.