وزير التربية والتعليم السابق
أ.د. الهلالى الشربينى الهلالى يكتب:
توجهات السياسة التعليمية في مصر
بعد جائحة كوفيد 19 (3/ 7)
السياسة التعليمية وتمويل التعليم:
شهد العالم فى السنوات القليلة الماضية تغيرات كبيرة وترسخ مفاهيم كثيرة؛ من بينها: انتشار مفهوم الديمقراطية، وتطبيق مبادئ منظمـة التجارة العالمية على الخدمات، وعولمة رأس المال، وتدويل العمالة، وقد أثرت هذه التغيرات على التعليم بكل مراحله باعتباره الوسيلة الفاعلـة فـى مواجهـة هـذه التغيرات من خلال إعداده لجيل من المتخرجين يتميز بالقدرة على الإبداع والمنافسة فى سوق العمل العالمى، الأمر الذى جعل معظم أنظمة التعليم فى العالم تواجه عجزًا فى الموارد المالية بسبب عدة عوامل؛ منها: النمو السكاني السريع خاصة فى دول العالم الثالث، وارتفاع كلفة التعليم فى مراحله المختلفة.
وفى ظل ما يشهده العالم من ثورات تكنولوجية ومعرفية تنعكس على كل مناحي الحياة ظهرت فى الآونة الأخيرة اتجاهات متعددة في تمويل التعليم في كثير من دول العالم؛ بعـضها يركز على التمويل الذى تقدمه الدولة وترشيده كمصدر أساسي للتمويل، والبعض يركز على إسهامات الطلاب وأولياء الأمور والتبرعات والهبات وعوائد الأوقاف، والبعض الآخر يركز على خصخصة التعليم أو جزء منه وتسويق الخدمات والأنشطة، ويمكن إجمال الإصلاحات التى ركزت عليها السياسة التعليمية فى هذا الصدد فى معظم دول العالم فى الإصلاحات المتعلقة بالموازنة وتخصيص الموارد، وبتخفيض النفقات وزيادة الكفاءة، وبالتشغيل والمكافآت، وبالإدارة وتوزيع السلطات، وكذا دعم التمويل الحكومي المقدم للتعليم بمصادر تمويل إضافية غير حكومية؛ مثل: الرسوم الدراسية والقروض الطلابية والهبات والتحول إلى المؤسسات التعليمية المنتجة، وكذا تسليع جزء من التعليم والخدمات والأنشطة المرتبطة به.
والواقع أنه على الرغم من التزايد فى حجم التمويل الذي يقدم إلى مؤسسات التعليم مـن جهـات غـير حكومية فى كثـير من دول العالم منذ بداية القرن الحالى، إلا أن التمويل الحكومي لا يزال يمثـل المصـدر الرئيس لتمويل تلك المؤسسات، والمقصود هنا بالتمويل الحكومي ذلك التمويل المستمد من حصيلة الضرائب وهو ما يطلق عليه فى كثير من دول العالم “التمويل العام”؛ ويقدم هذا التمويل للتعليم عن طريق الحكومة المركزية أو عن طريق المشاركة بينها وبين الحكومات المحلية، وبالتدقيق فى طبيعة التمويل العام للتعليم نجد أن له ثلاثة مؤشرات أساسية؛ تشمل: التمويل العام للتعليم كنسبة من الناتج المحلي القومي الإجمالى، والتمويل العام للتعليم كنسبة من مجمل الإنفاق الحكومي، ونصيب الفرد من التمويل العام للتعليم.
وفى ضوء حجم وأهمية التمويل الحكومي الذى يقدم للتعليم في مختلف دول العالم ظهر اتجاه قوي يرى ضرورة إجراء إصلاحات فى هـذا التمويل تساعد على تحقيق الاستخدام الأمثل للموارد التي يوفرها، ويمكن إجمال الإصلاحات التى ركزت عليها السياسة التعليمية فى هذا الصدد فى معظم دول العالم فيما يلى:
أ- الإصلاحات المتعلقة بالموازنة وتخصيص الموارد ؛ وتشمـل التدابير التى أقرتها معظم النظم التعليمية فى هذا الشأن، ومنها: نقل المسئولية والمساءلة المالية إلى الوحدات الفرعية العاملة بقدر ما تسمح به خبرة هذه الوحدات مع عدم التخلي الكامل عن السيطرة المركزية، والأخذ بنظام التمويل المبني على الصيغة المعادلة الذى يتخذ عدد المقيدين ونتائج الخريجين ومؤشرات أخرى أساسًا لـه، ومراقبة الميزانية بشكل منتظم طوال العام عن طريق مقارنة التمويل الفعلي والإنفاق بالنسبة لمختلف بنود المـيزانية، فإذا وجدت فروق بين التمويل الفعلي والإنفاق، كما من المحتمل أن يحدث تكون وظيفة الإدارة تصحيـح هـذه الأخطاء، وعمل تدريب خاص في أعمال الميزانية لكل المديرين ورؤساء الوحدات؛ حيث إن أغلب العاملين فى مجال التعليـم تكون خلفياتهم محدودة فى الإدارة المالية.
ب- الإصلاحات المتعلقة بالإنفاق ؛ ويتطلب هذا النوع من الإصلاح فى مؤسسات التعليم التركيز على عدة أمور؛ تشمل: (18: 24) تخفيض النفقات وزيادة الكفاءة من خلال نقل مسئولية اتخاذ القرارات بكل مستوياتها إلى قادة التعليم، والعمل على تطوير الإدارة، حتى تستطيع اتخاذ القرارات المناسبة، والتركيز على الأنشطة التى تحظى باهتمام جماهيري، والاهتمام بالمحاسبية لتقليل نسبة الشك وعدم الثقة لدى جهات التمويل، وتقييم تكلفة الخدمات المقدمة من مؤسسات التعليم وبحث ما إذا كان التعاقد مع جهات أخرى من خارج هذه المؤسسات أكثر فعالية بالنسبة للتكلفة، وإنشاء آليات لتحليل التكاليف ومحاولة الربط بينها
وبين الفوائد فى كل قطاع من قطاعات التعليم.
جـ- الإصلاحات المتعلقة بالتشغيل والمكافآت؛ ويقصد بهذه الإصلاحات في المؤسسات التى تنتج الخدمات أو البضائع التغيير فى التكنولوجيا المستخدمة فى الإنتاج وكذا فى المهارات وفى الخصائص وفى عدد العمال بما يؤدي فى النهاية إلى تغيير الرسالة أو المنتج، أما هذه الإصلاحات فى مؤسسات التعليم فيقصد بها وجود مؤسسات مختلفة – على الأقل – من حيث السلوك بما تتضمنه من أعضاء هيئة تعليم وإداريين وعمال.
ويتطلب الاستخدام الكفء والفعال للموارد العامة فى مؤسسات التعليم فى ظل التغير السريع فى قطاعات العمالة كثيرًا من الإصلاحات؛ من بينها: القدرة على زيادة المكافآت التي يتم دفعها مقابل مهارات معينة يتطلبها السوق، والقدرة على التوقف عن الدفع عندما يصبح من يتلقون هذه المكافآت غير قادرين على مواجهة وتحقيق ما يطلب منهم، والقدرة على تغيير حجم الأعباء من خلال التحول إلى العمل بنظام بعض الوقت، والقدرة على خفض متوسط تكاليف مرتبات العاملين وأعضاء هيئة التعليم فى الدول ذات الدخل المرتفع، وذلك بتعيين المزيد من أعضاء هيئة التدريس ومساعديهم الأصغر سنًا والذين يمكن أن يكملوا عمل أعضاء هيئة التدريس ذوي المرتبات المرتفعة والخبرة العالية.
وبالطبع فإن هذه الإصلاحات قد تتعارض مع نظام الخدمة المدنية فى بعض الدول -ومنها مصر – وكان من الصعب على كثير منها قبل سنوات قليلة مجرد التفكير فيها، إلا أنها طبقتها حاليًا وأصبح هناك إمكانية للاستغناء عن العامل عندما يصبح غير منتج، ومن بين هذه الدول روسيا ودول شرق أوروبا والصين، كما ظهرت فى مصر أصوات تنادي بضرورة إعادة النظر فى هيكل العمالة بالمؤسسات التعليمية والتخلص من جوانب الهدر المتمثلة فى مرتبات ومكافآت بعض أعضاء هيئة التعليم الذين لا يقدمون خدمات تعليمية حقيقية، وكذا الأعداد الزائدة من الموظفين الإداريين، وتقديم خدمات طلابية مجانية غير مبررة والتأثيث الترفي، ومكافأة البعض بدون وجه حق.
د – الإصلاحات المتعلقة بالإدارة وتوزيع السلطة؛ ويقصد بهذه الإصلاحات تحريك السلطة من الوزارة المركزية إلى المديريات التعليمية ثم إلى مؤسسات التعليم نفسها، وأن يتضمن أى هيكل تنظيمى فى أى مؤسسة تعليمية عدة نماذج لتوزيع السلطة على الإدارة المالية، ويمكن أن تكون عملية تخصيص الموارد وإدارتها خليطًا من أكثر من نموذج. وقد حدث تحول فى كثير من دول العالم – وخاصة النامية منها – فى النظم البيروقراطية للإدارة المالية فى المؤسسات التعليمية والتى كانت مفروضة من الحكومات، إلا أن هذا الأمر ما زال يتطلب مزيدًا من الإصلاح والتحول، الأمر الذى يستلزم وجود تفاهم وتحديد للأدوار والمسئوليات بين الوزارات المركزية المعنية مثل وزارة التعليم ووزارة المالية، وكذا المديريات المحلية بما فيها التعليم والمالية وغيرها.
والواقع أن السياسة التعليمية فى مصر منذ خمسينيات القرن الماضي ظلت تنطلق من مبدأ أن الحكومة هي المصدر الرئيس لتمويل التعليم؛ على اعتبار أن الدولة وحدها – دون أفرادها ومؤسساتها – هي المسئولة عن تمويل الإنفاق على مؤسسات التعليم الحكومية باعتبارها مؤسسات الدولة التى تقدم التعليم بالمجان طبقًا للدستور، وقد ترتب على هذا الوضع عدم كفاية الموارد التى تقدمها الحكومة للإنفاق على التعليم، وأصـبح الأمر يستلزم ضرورة البحث عن طرق ومصادر جديدة للإسهام فى تمويل التعليم خاصة فى ظل ظهور متغيرات عديدة، لعل فى مقدمتها الانفجار فى أعداد الطلاب الراغبين فى الالتحاق بمراحل التعليم المختلفة، وارتفاع كلفة التعليم والأنشطة المرتبطة به بكل المراحل التعليمية، وسعي مؤسسات التعليم إلى تحقيق مستوى معرفي يساعد المتخرجين على المنافسة فى سوق العمل العالمي، وحيث إن مشكلات تمويل التعليم فى مصر وكثير من دول العالم تتمثل فى عدم كفاية الموارد المالية وسوء تخصيصها وانخفاض كفاءتها؛ فقد بات من الضرورى أن تركز السياسة التعليمية فى هذه الدول فى على إجراء مجموعة من الإصلاحات المهمة حول تمويل التعليم.