بقلم د. الهلالى الشربينى الهلالى
أستاذ تخطيط التعليم بجامعة المنصورة ووزير التربية والتعليم والتعليم الفني السابق
وقد اتخذ مفهوم جامعات الشركات طريقه إلى المجتمع المصري مع إنشاء وتأسيس المعهد المصرفي بواسطة البنك المركزي المصري في عام 1991 بالقاهرة، كمؤسسة غير هادفة للربح تقدم خدمات للمصرفيين والممولين وأصحاب الأعمال، ثم إنشاء أكاديمية أخبار اليوم في عام 1999 كمركز للتعليم والتدريب في مختلف ميادين العلوم الإنسانية والطبيعية والهندسية والتطبيقية يتبع جمعية الخدمات التعليمية والاجتماعية بأخبار اليوم، وبعد ذلك إنشاء جامعة هليوبوليس بواسطة مجموعة سيكم للاستدامة وتنمية المجتمع في عام 2009 بهدف الجمع بين التدريس والتعلم والبحث والممارسة باستخدام أسلوب حل المشكلات، والدمج بين النظرية والتطبيق، وتطوير مشروعات اجتماعية يتبناها بعض رجال أعمال من خلال الابتكار والتكنولوجيا والعمل الفريقى.
وتتخذ جامعات الشركات أشكالًا وانماطًا متعددة؛ فمنها ما تنشئه شركات تتبع القطاع الخاص ومنها ما تنشئه وزارات أو قطاعات أو شركات حكومية، ومنها ما يخرج من رحم الجامعات الحكومية التقليدية. وتتميز جامعات الشركات التي تنشئها شركات القطاع الخاص بكونها جامعات تنشأ بتمويل من الشركة التي تؤسسها بهدف التطوير الذاتي والاستراتيجي للشركة، وبكونها أيضًا جامعات يتولى التعليم والتدريب فيها مدربون من قادة الأعمال والمشروعات من داخل الشركات ومن مؤسسات التعليم العالي والمؤسسات البحثية ومؤسسات التدريب المهني، هذا بالإضافة إلى أنها لا تهدف إلى التعليم أو التدريب فقط، ولكنها تهتم أيضًا بالبحث عن المواهب البشرية داخل الشركة وتعمل على تنميتها، وتسعى إلى نشر ثقافة الشركة بين الطلاب والعملاء والشركاء الاستراتيجيين مما يؤدي إلى ترسيخ الولاء التنظيمى وإقامة علاقات مثمرة بين كافة الشركاء تساعد على تحقيق تنمية ومزايا تنافسية مستدامة للشركة.
وعلى الرغم من أن نموذج جامعات الشركات بالمفهوم السابق كان وما زال يتم تطبيقه على نطاق واسع في شركات القطاع الخاص، إلا أن العديد من المؤسسات الحكومية في كثير من دول العالم بدأت في تنفيذه أيضًا على نطاق واسع من خلال شركات جامعية تنشئها القطاعات أو الجامعات الحكومية ، ويتمثل هذا النموذج من جامعات الشركات التي تتبناها جهات حكومية في مصر في المعهد القومي للاتصالات التابع لوزارة الاتصالات، والجامعات الأهلية التي أنشت أخيرًا في مدن الجلالة، والعلمين، والمنصورة الجديدة، وجنوب سيناء، وكذلك في الجامعات الأهلية التي بدأت تخرج من رحم جامعات حكومية مثل المنصورة، وحلوان ، والقاهرة ، وغيرها ، وكذلك في الشركات الجامعية التي خرجت من رحم جامعة الملك سعود في الرياض، وجامعة الملك عبد العزيز في جدة، وجامعة الملك فهد في الظهران بالمملكة العربية السعودية.
ويسعى هذا النوع من جامعات الشركات إلى الانسحاب الجزئي من الاعتماد بشكل جوهري على التمويل الحكومي، والتحول نحو الاستثمار المعرفي وتحويل ما تمتلكه الشركات من قدرات إلى ميزات تنافسية، وكذلك الاعتماد على القيادة الاستراتيجية والإدارة بالأهداف والنتائج، والتوسع في الأنشطة الجامعية غير المباشرة، والتوجه نحو التعليم والتسويق الدولي، والتعلم عن بعد، وريادة الأعمال، وأبحاث التقنية متعددة التخصصات.
واستشرافًا لمستقبل جامعات الشركات التي تخرج من رحم جهات أو جامعات حكومية مصرية؛ فالغالب أنها ستواجه بعض الصعوبات والتحديات ؛ حيث إنها غالبًا ما ستواجه صراع بين ثقافتين مختلفتين هما الثقافة الأكاديمية التقليدية القائمة، وثقافة الأعمال التي يجب أن تتحول إليها وتصبح مسؤولة عن كل مدخلاتها ومخرجاتها المالية والبشرية وفق آليات عمل الشركات الاحترافي لا بيروقراطية الجامعات التقليدية والمؤسسات العامة، وبالطبع في ظل هذا الوضع قد تظهر هناك مقاومة لطرق التعليم والتدريب والبحث الموجهة بالاقتصاد المعرفي القائم على النموذج التجاري ، الأمر الذي يتطلب أن يكون لهذه الجامعات مجالس يغلب عليها تمثيل من رجال الأعمال وخبراء السوق ليشاركوا في رسم سياسات وتوجهات وقرارات تلك المجالس، وإخراجها من البيئة العامة إلى بيئة الأعمال الخاصة، من خلال تحرير الإدارة المالية من قيود اللجان والمجالس والتركيز على تحقيق الأهداف والإنجاز، مع الاحتفاظ بالأهداف والمعايير الموحدة لقياس الأداء، وتخصيص الميزانيات وفق التقدم في تحقيق الأهداف المرجوة.[1]
وتسعى جامعات الشركات بصفة عامة إلى تلبية مجموعة من الأهداف، تتمثل في تقديم برامج تعليم وتعلم وتدريب عالية الجودة بتكلفة أقل، من خلال إدارة الموارد التي تمتلكها وتطويعها للقضاء على “الهدر” وتعزيز سلسلة القيمة، وتزويد الموظفين وقادة المستقبل والقيادات العليا والتنفيذية بفرص مناسبة لتطوير حياتهم المهنية والإدارية داخل الشركة ، واستخدام استراتيجيات وأساليب تدريس تساعد في توفير المهارات التي تتطلبها أسواق العمل، وغرس قيم وثقافة الشركة ونشرها بين منتسبيها، واكتشاف أصحاب المواهب والمبدعين والعمل على تطويرهم وتنمية قدراتهم، وجعل الشركة أكثر إنتاجية وتميزًا وتنافسية واستجابة للتغيرات التكنولوجية والصناعية، وتحويلها إلى منظمة متعلمة تعمل على تعزيز الأفراد وتنمية قدراتهم ومهاراتهم ، والوصول إلى أنماط جديدة من التفكير ، وإطلاق العنان للطموح الجماعي والعمل الفريقى والتعلم معا ، وتحسين خدمة العملاء والاحتفاظ بهم، وتحسين الإنتاجية، وتقليل التكاليف، والاحتفاظ بالعاملين الموهوبين، وزيادة العوائد والإيرادات، والتعاون مع كافة المؤسسات الإنتاجية والخدمية والبحثية والمنظمات المجتمعية بما يضمن جودة التعليم والتدريب التي تقدمه الجامعة، وتوفير بيئة تعليمية وخدمية وتدريبية وبحثية مشجعة لإكساب الطلاب المعارف والمهارات التي تؤهلهم للتكيف مع التغيرات في سوق العمل.
ولكى تُحقق جامعات الشركات الأهداف سالفة الذكر يجب أن يتمركز محتوى منهج جامعات الشركات حول سبع وظائف ؛ الأولى منها تركز على التعرف على موضوعات المحتوى التي ترتبط مباشرة بالكفاءات الأساسية للشركة ، والثانية تركز على كيفية التعرف على المشكلات والتعامل معها من خلال معرفة المحتوى، والثالثة تركز على تنمية مهارات التأمل وما وراء المعرفة وتعقب المعرفة الجديدة وإتقانها وجعلها قابلة للتطبيق، والرابعة تركز على اكتساب المهارات الاجتماعية ومهارات التواصل بالآخرين وتجعل مناخ التعلم في بيئة العمل أكثر متعة، والخامسة تركز على اكتساب المهارات الخاصة بتنظيم الدوافع والعواطف حول التعلم، والسادسة تركز على تعزيز الهدوء والاستقرار أثناء التعلم، لتحقيق العمق والتماسك والتكامل والتحسين المستمر في المنتجات والخدمات والعمليات التي تتم، أما السابعة فتركز على تحفيز وتوجيه الاضطرابات الإبداعية التي قد تؤدي إلى حدوث ابتكار جوهري ومختلف.
كما يذهب Viltard إلى أن جامعات الشركات لكى تنجح في تحقيق الأهداف سالفة الذكر ، يجب عليها أيضاً:([2]( أن تحدد المعرفة التي سيتم تطويرها في الجامعة في ضوء تحديد أقسام الأعمال المختلفة في الشركة، وأن تسمح بمشاركة القادة والمديرين فى تدريب الموظفين إلى جانب مسؤولية الموظفين عن تدريب وتطوير أنفسهم من خلال حضور البرامج التي يفضلونها، وأن تركز على انتظام تدريب وإدارة المواهب والعمل على تطبيق المعرفة التي يتم اكتسابها، وأن تضع نظام واضح لمشاركة كبار القادة والمديرين في نقل المعرفة، باستخدام استراتيجية لعب الأدوار في الفصول الدراسية والتدريبات التعليمية، وأن تجمع بين المستهدف وما يمكن القيام به، من خلال إقامة مشاريع تعليمية قصيرة تضم أنشطة وجها لوجه وخطط تدريب جديدة ودعم المهني، وأن تستخدم صيغ وتقنيات تتناسب مع مستويات الحضور المختلفة؛ من منطلق أن كل الموظفين لا يتعلمون بطريقة واحدة ولا تتوافر لديهم نفس الاهتمامات، وأن تركز على الاستفادة من التقنيات التعليمية الجديدة مثل المنصات لكسر حواجز التعلم التقليدية، وأن تطبق طرق جديدة لقياس البرامج وتقييمها تكون معروفة على مستوى قطاع الأعمال وعلى المستوى الفردي مثل العائد على الاستثمار في التعلم، وأن تدعم الموظفين عند عودتهم للعمل بعد إعدادهم وتدريبهم، لتطبيق ما حصلوه على روتين حياتهم اليومية، وأن تخلق شبكة للمشاركين الأوائل في جامعة الشركات، من أجل تشجيع التعلم المستمر، والمساهمة في التنمية المستقبلية والشعور بالولاء والانتماء لجامعة الشركة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تتشابه رؤى جامعات الشركات في مصر مع ما يحدث في معظم جامعات الشركات في العالم من حيث الطموح المستقبلي والوضوح والتركيز على: الجمع بين التعليم والتدريب وتضمين ذلك رسالة كل جامعة بشكل صريح أو ضمني؟ و الاهتمام بإجراء البحوث المختلفة في مجال اهتمام الشركة الأم؟، وتعزيز القدرة التنافسية للدولة؟، وتبنى أهداف مشتركة تخدم المجتمع المحلي وتعمل على تطويره وحل مشكلاته من خلال برامج التدريب والتعليم المستمر والإرشاد الميداني؟ ، والاهتمام باللغة القومية (اللغة العربية)؟، وتقديم برامج تدريبية متنوعة تتلاءم مع احتياجات الشركة الأم ومجالات عملها واحتياجات سوق العمل؟، وتنويع الطرق المستخدمة في التدريس والتدريب؟، وتوفير كافة الخدمات والمرافق الجامعية الموجهة لخدمة الطالب؟، والتوجه نحو اتباع النمط اللامركزي في الإدارة؟
يشير الواقع الدولي أن جامعات الشركات قد أنشئت في الدول المتقدمة بغرض دفع عجة النمو والنجاح بالشركات التي أنشأتها من خلال تدريب وتثقيف موظفيها على أحدث المهارات المطلوبة فى سوق العمل؛ ويتجلى ذلك بوضوح فى معظم جامعات الشركات التي أنشئت بالولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وماليزيا وإندونيسيا وفرنسا والهند وروسيا واليابان؛ حيث إن معظمها -إن لم يكن كلها- تعمل على تلبية متطلبات سوق العمل من خلال الربط بين التعليم والتدريب وبرامج التعليم المستمر وتنمية رأس المال البشري، وتوفير ميزة تنافسية للشركة الأم، وبالتبعية تقوية اقتصاد الدولة مما يقلل من معدل البطالة ،إلا أن الواقع المصري يشير إلى أن جامعات الشركات التي أنشئت في مصر قد نشأت بهدف الاستثمار ولم تنشأ بهدف مساعدة المؤسسة الأم على تحقيق التميز والريادة في مجال عملها.
ويؤكد الواقع المصري أن معظم مؤسسات التعليم العالي التي أنشئت تحت مسمى جامعات شركات لا تختلف كثيرًا عن الجامعات والمعاهد الخاصة التقليدية لا فى أهدافها ولا في برامجها ونظم التعليم والتدريب بها، هذا بالإضافة إلى الانفصال شبه التام بينها وبين استراتيجية عمل القطاع أو المؤسسة الاقتصادية الأم التي أنشأتها، ونمطية وتقليدية معظم التخصصات الموجودة بها ووجود معظمها بالجامعات الخاصة والحكومية التقليدية، وبالتالي فمعظم هذه المؤسسات في ضوء الفلسفة التي تقوم عليها جامعات الشركات على المستوى الدولي لا تختلف عن باقي الجامعات والمعاهد التقليدية ؛ وتعاني من ضعف ممارساتها التعليمية ، وعدم مواكبة مخرجاتها لاحتياجات سوق العمل التي أفرزتها وما زالت تفرزها المستحدثات التكنولوجية والتغيرات العالمية والتطورات الإقليمية والمحلية المتلاحقة، ومن ثم فهذه الجامعات لا تعدو أكثر من مجرد مؤسسات تعليمية تسعى إلى الربح أكثر من سعيها إلى تطوير العمليات التعليمية والتدريبية والبحثية بها.
وفى ضوء ما تقدم ولكي تحافظ جامعات الشركات المصرية على وجودها واستمرارها يجب أن توجه تركيزها نحو اقتصاد المعرفة، وأهداف الشركة الأم التي تخدمها، وتوفير فرص للموظفين للتعبير عن أنفسهم وإشراك المديرين في تقييمهم والتعرف عليهم، وكذا نحو إقامة علاقات مفتوحة مع العالم الخارجي والتعرف على احتياجات سوق العمل المتغيرة لخلق وتهيئة الظروف اللازمة للتعلم والتطوير والبحث والابتكار، هذا بالإضافة إلى تكييف عملها مع وظائف المستقبل واحتياجات الأجيال الجديدة، والكشف عن المواهب لخلق مجتمعات جديدة من القادة.
ولتفعيل الشراكة بين هذه الجامعات والمؤسسات الإنتاجية من الضرورى أن تكون هذه الجامعات على تواصل حقيقي مع المجتمع، بما يساعد على تقديم نظم وبرامج جديدة تتمركز حول احتياجات سوق العمل، وتعمل على توفير المناخ التنظيمي الداعم لتحقيق الأهداف المشتركة مع المؤسسات الإنتاجية والخدمية،، وتعمل كذلك على تهيئة الموظفين الجدد وإكسابهم الكفايات والمهارات اللازمة، وتستهدف نشر ثقافة الشراكة بين الجامعة والمجتمع المحيط ، وتحقق التحول من العمل على تخريج مهنيين فقط إلى تخريج مواطنين منتجين، وتوفر البنية التحتية المتقدمة المبنية على تكنولوجيا المعلومات التي تربط النظرية بالتطبيق وتساعد على تحقيق الإبداع والابتكار، وتتبنى قواعد وأسس معيارية مصرية ودولية محددة ومعتمدة عند إنشاء جامعات شركات جديدة تستهدف الحصول على اعتماد أكاديمي على المستوى المحلي والدولي.
*أستاذ تخطيط التعليم بجامعة المنصورة ووزير التربية والتعليم والتعليم الفني السابق