سبحان الله العظيم الحكيم الذي أفرد للماء من دون سائر مخلوقاته مكانة عظيمة ودوراً كبيراً، فقبل الخلق أي خلق، وقبل السموات والأرض كان هناك الماء حيث يقول عز من قائل ﴿وكان عرشه علي الماء﴾ (هود 7)،
وعندما أراد الله أن يخلق خلقاً علي الأرض خلقهم جميعا من ماء حيث يقول تبارك وتعالي ﴿والله خلق كل دابة من ماء﴾ (النور 45)،
ثم إذا أراد الله بقدرته وحكمته وفي الوقت الذي يريده أن ينهي الحياة علي الأرض – إذانا بحلول يوم القيامة – نزع منها الماء مصداقاً لقوله عز وجل ﴿وإذا البحار سجرت﴾ (التكوير 6)، أي اشتعلت وتحول الماء ناراً، ونضبت معطيات ومقومات الحياة علي الأرض.
كما سيعيد الله عز وجل أحياء البشر يوم البعث وإنباتهم من ماء حيث يقول الله تعالى ﴿وهو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم﴾ (الروم 27) ،
ليس ذلك فحسب بل سينعم المؤمنون بالماء ويعذب المعذبون في النار أيضا بالماء حيث يقول الله عز وجل عن أصحاب الجنة أن لهم فيها انهار من الماء الدائم الصلاحية للشرب
﴿مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم﴾ (محمد 15)، ويقول عن شراب أهل النار
﴿وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون﴾ (الأنعام 70)،
ويقص الحكيم العليم عن حال أهل النار بأنهم يستجدون الماء من أهل الجنة فيقول ﴿ ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين﴾ (الأعراف 50).
والماء من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده، فهو أغلى ما يملكه الإنسان على الأرض لاستمرار حياته – بإذن الله – ويدرك ذلك كل الناس كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم،
فلا يستطيع أن يستغني عن الماء إنسان أو حيوان أو نبات أو أي شكل أخر من أشكال الحياة التي نراها أو التي لم يأذن الله لنا بعد بالكشف عنها، فلا شراب إلا بالماء ولا طعام إلا بالماء ولا نظافة إلا بالماء ولا دواء إلا بالماء ولا زراعة إلا بالماء ولا صناعة إلا بالماء.
والماء لم تنقص قيمته على مر العصور سواء بتقدم البشرية أو بتأخرها، بل قد زادت حتى صار الحديث متكررا عن الأمن المائي والصراع على موارده. و الماء هو في الحقيقة المؤكدة عماد اقتصاد الدول ومصدر رخائها،
فبتوافره تتقدم وتزدهر البشرية وبنضوبه وشح موارده تحل الكوارث والنكبات. فالماء هو أصل الحياة ومنبتها على الأرض وقد قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنبياء 30)، ويقول جل شأنه: ﴿والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير﴾ (النور 45).
و في تفسير بن كثير عن أبي هريرة أنه قال يا نبي الله إذا رأيتك قرت عيني وطابت نفسي فأخبرنا عن كل شيء قال “كل شيء خلق من ماء“. وقال الإمام أحمد في مسنده ” عن أبي هريرة قال قلت يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني فأنبئني عن كل شيء قال ” كل شيء خلق من ماء “.
ولقد تباينت نظرة العلماء للماء أيما تباين، فعندما طلب تعريف دقيق للماء مع إيضاح أهميته جاءت الإجابات متباينة: فعلماء الزراعة يرون أن الماء هو الشيء الأساسي للحياة فإذا غاب لا تنبت البذور ولا الحبوب ولا الجراثيم ولا تنمو المزروعات ولا توجد الأنعام ويهلك الحي منها ويموت. أما الأطباء فيرون الماء من زاوية أهميته لحياة الناس وصحتهم الخاصة والعامة فجميع العمليات الحيوية في الجسم تحتاج إلى الماء حتى تتم، أما علماء التاريخ والجغرافيا البشرية فيربطون بين نشأة الحضارات والماء، فالحضارة المصرية ارتبطت بنهر النيل وحضارة سبأ ارتبطت بالمياه الموسمية وسد مأرب، وحضارة العرب ارتبطت ببئر زمزم وتفجر الماء العذب منه.
أما الفيزيائيون والذين يخططون للمستقبل فيرون أن الماء هو مصدر الهيدروجين عنصر الطاقة الحيوية والإستراتيجية في المستقبل القريب. والجيولوجيون يرون نشأة الحياة وتكون التربة والحفريات وعناصر الطاقة ومصادرها القديمة والحديثة مرتبطة بالمياه ووجودها ودورتها في الحياة، ولذلك ليس من العلم أو الحكمة أن نقول: أن الماء هو الماء، أو أن نعطي تعريفاً قاصراً للماء، وقد قيل في الأمثال “فسر الماء بعد الجهد بالماء”. والبيولوجيون يجمعون في نظرتهم بين نظرتي علماء الزراعة والأطباء ويزيدون عليها أن الحياة جميعاً هي الماء وأن التربة الزراعية والنبات والحيوان والإنسان والكائنات الحية الدقيقة تحتاج إلى الماء في كل مرحلة من مراحل حياتها.
لا شك في أن الماء ضروري لكل الوظائف الفسيولوجية والحيوية فهو يستخدم في عمليات الهضم والامتصاص ونقل المغذيات ووسيطاً لإتمام العمليات الكيميائية المختلفة، ومذيباً للمخلفات ومخفف لها من أجل التقليل من أثرها السام، كما يساعد في عملية طردها خارج جسم الكائن الحي، و يساعد الماء في تنظيم درجة حرارة الكائنات الحية بالإضافة إلى ذلك فإنه يوفر وسادة واقية للخلايا. والماء هو المادة الأساسية في تكوين دم الإنسان والإفرازات السائلة مثل اللعاب والدموع وعصائر المعدة والسائل الذي تفرزه أغشية المفاصل وسوائل أخرى عديدة والتي لها دور رئيسي في عملية تزيت الأعضاء والمفاصل الأخرى، بالإضافة إلى أن الماء يحافظ على نعومة الجلد، ويتعامل علماء الأرض والفضاء مع الماء كجهاز إنذار مبكر يكشف وجود الحياة في هذه البقعة أو تلك، وما البعثات الفضائية التي نسمع عنها إلا وأول أهدافها البحث عن ماء للدلالة على وجود الحياة على هذا الكوكب أو ذاك.
والكثير من العلماء أشاروا أن فقدان 5 إلى 10٪ فقط من ماء جسم الإنسان يؤدي إلى جفاف خطير قد يفضي للوفاة خاصة عندما ترتفع نسبة الفقد إلى 15-20٪، إحصائيا يشكل الماء 90% من مخ الإنسان و 70% من مكونات القلب و 86% من الرئتين والكبد، 83% من الكليتين، 75% من عضلات الجسم المختلفة و 83% من الدم. ويكون الماء حوالي 60-95% من أجسام الأحياء الراقية بما فيها الإنسان، كما يكون حوالي 90% من أجسام الكائنات الحية الدقيقة.
وفي عالم النبات نجد أن ثمار الطماطم تحتوي على 94% من وزنها ماء، والكرنب يحتوي على 93.5%، العنب 80%، البرتقال 85%، المانجو 86%، الزبيب 14.6%، الفول السوداني 9.2%، دقيق الشوفان 7.3%، الأرز 12.3%، الكرفس 94.5%، السبانخ 92.3%، الفراولة 90.4%، اللفت 98.6%، الخوخ 98.4%، الفول الأخضر98.2%، الجزر 88.2%، الخس 97.4%، التفاح 84.4%، البرقوق 87.4%، البطاطس 87.3%، الموز 75.3%. وفي الحيوانات نجد أن لحم الضأن يحتوي على 63% والكبد 70% والسمك 66% واللبن 87% وقنديل البحر 99% من وزنه ماء.
كما وأن للماء قدرته العالية على إذابة عدد هائل من المواد الصلبة والسائلة والغازية, وبناؤه الجزيئي ذو القطبية المزدوجة والمقاوم للتحلل والتأين حيث يتألف الماء من جزيئات متلاصقة متماسكة، يتكون الجزيء الواحد من ارتباط ذرة أوكسجين مع ذرتين من الهيدروجين، ويتم هذا الارتباط وفق رابطة تساهمية قوية, ودرجتا التجمد والغليان المتميزتان، والحرارة النوعية المرتفعة، والحرارة الكامنة العالية، واللزوجة والتوتر السطحي الفائقان، وقلة كثافته عند التجمد, وقدرته الكبيرة على الأكسدة والاختزال، وعلى التفاعل مع العديد من المركبات الكيميائية، وعلى تصديع التربة وشقها لمساعدتها على الإنبات، وبذلك هيأه “الله جل شأنه” للقيام بدوره الرئيسي في أجساد كل أنواع الحياة على الأرض.
والماء العادي يسمي بالماء الخفيف، ولكن في المقابل يوجد هناك ما يسمي بالماء الثقيل والذي تتعدد فوائدة ليس للإنسان أو الحيوان أو النبات، ولكن للأسف في أسلحة الدمار الشامل وبالتحديد في المفاعلات النووية. وتكمن أهمية الماء الثقيل في قدرته العالية على التحكم بطاقة النيوترونات المنطلقة من التفاعل الذري. كما انه يعمل كمبرد لقلب المفاعل وينقل الحرارة بفعالية لتحويلها إلى طاقة بخارية مفيدة. ورغم قدرة الماء العادي على لعب هذه الأدوار إلا أن الماء الثقيل أكثر منه سرعة وفعالية.
وفي القرن الحالي يحلم الجميع بوقود الهيدروجين النظيف المتجدد والرخيص. وهناك من ينتظر ألا تؤذيه الروائح القوية النفاذة، وهو يزود سيارته بالوقود في محطات الوقود، والمعنيون بالبيئة ونظافتها ينتظرون المعجزة التي تقلل من انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون، ومعهم العلماء في خندق واحد حتى تزول غمة الاحتباس الحراري لكوكب الأرض، وشركات الوقود تنتظر هبة الله في وقود لا ينفد بدلا من الإمدادات غير المنتظمة للوقود الحجري التقليدي، والجميع معًا يكتوون بنار أسعار الوقود حتى في برد الشتاء، إنها حقاً معادلة صعبة للغاية.
تعتبر المياه التي تغطي ما يقرب من ثلاثة أرباع مساحة الكرة الأرضية مصدرا رئيسيا للهيدروجين، إلا أن الطريقة الوحيدة المعروفة لاستخلاصه هي التحليل الكهربائي وتكلف عشرة أضعاف الغاز الطبيعي وثلاثة أضعاف البنزين. والأمل معقود الآن على علماء البيولوجيا والطاقة معاً لإيجاد وسيلة سهلة ورخيصة لاستخلاص الهيدروجين من بين ثنايا جزي الماء.
وللماء فوائد علاجية لا تعد، وليس كل ماء كماء زمزم، فقد ورد في صحيح مسلم من حديث طويل عن عبادة ابن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف ماء بئر زمزم فقال :(إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ). وفي سنن ابن ماجة ومسند أحمد عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول: “مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ”.
كما أن للماء دوراً رئيسياً في تلوين الحياة من حولنا، فكلنا يعلم الدور الهام الذي يلعبه الماء في القيام بالعمليات الجيولوجية الخارجية منها والداخلية وهى العمليات التي ينتج عنها تكون المعادن المختلفة التي تضفى على الصخور ألوانا مميزة تمتع الأبصار، وليس ألوان الصخور فقط التي تتأثر بالماء، بل الثمار مختلفة الألوان والأشجار والأزهار وغيرها، وتلعب هذه الألوان التي تتشكل بفعل الماء دورا هاما في العلاج النفسي والعضوي للإنسان، وفي هذا الصدد قال ربنا تبارك وتعالى في سورة فاطر (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)).
والماء غني ليس فقط بجماله وتبعثر جزيئاته في الهواء والمناظر التي يؤلفها وسط الحديقة، بل بالأصوات التي تشكل لحناً هادئاً أحياناً وقويا أحياناً أخرى، تكون مصدر متعة وطرب لدى سماعه فالمنظر الطبيعي يسر الناظر إلى المياه الرقراقة في الأحواض المترامية الأطراف، إضافة إلى أنها تنعش أجواء الأمسيات حولها كما أن حديقة المنزل تزدان بالأحواض التي تتوزع فيها المياه هنا وهناك. أنها قصة من قصص الحق لا يماري فيها كائن حي، جزيء يبدو بسيطا مكون من اكسجين وهيدروجين فقط ولكنه سر الحياة الاعظم.
بقلم : ا. د دسوقي عبد الحليم