بقلم د محمد زكريا توفيق
قصة الفلسفة الغربية بدأت في اليونان. المدن اليونانية قديما لم تكن مقصورة على أرض دولة اليونان الحالية. بل كانت تتبعها مدن يونانية في دول أخرى. أيونيا ومالطة وإفسوس في آسيا الصغرى، والاسكندرية في مصر، وإيليا في جنوب الساحل الإيطالي.
كلمة “لوجوس” باليونانية تصف نوعا معينا من التفكير. طريقة تفكير تستخدم المنطق والتحليل، لتفسير الظواهر والأشياء التي تعتري الإنسان. هذا النوع من التفكير، غالبا يقود إلى الحكمة.
الحكمة باليونانية تعبر عنها كلمة “صوفيا”. إذا أضفنا لكلمة صوفيا، كلمة “فيلو” وتعني حب، أصبحت الكلمة المركبة “فيلو صوفيا”، وتعني حب الحكمة. من هنا جاءت كلمة فلسفة. التي تعني حرفيا حب الحكمة. إذا كنت محبا للحكمة والمعرفة، فأنت فيلسوف.
ماذا كان يوجد قبل الفلسفة, وقبل طريقة “لوجوس” في التفكير؟ كانت توجد طريقة أخرى، هي “ميثوس”، أو الأساطير. لا داعي للتفكير ووجع الدماغ. نترك التفكير للكهنة والمفسرين ورجال الدين، ونأخذ نحن المعلومات على الجاهز.
الأساطير والقصص الموروثة عن الأجداد تفسر لنا كل شئ. البرق والرعد سببهما مقرعة كبير الآلهة “زيوس” على قمة جبل الأولومب. الكرة الأرضية يحملها ثور كبير على قرنيه. عندما يشعر بالتعب، تحدث الزلازل. الأمراض والاوبئة بسبب غضب الآلهة. وهكذا.
معظم الأساطير لها علاقة بالدين وحياة الآلهة. لذلك كانت لها صفة القداسة. حافظ عليها الأجداد وعضوا عليها بالنواجذ. كان يسلمها كل جيل إلى الجيل الذي يليه.
استخدمت هذه الأساطير في خلق نظام اجتماعي متكامل، يفسر كل شئ ويجيب على كل سؤال. لكن عيب هذه الأساطير المقدسة، أنها تخلق مجتمعات ساكنة راكدة، تقاوم التقدم والتغيير. العصور المظلمة، استمرت أكثر من 1000 سنة بسبب سيطرة الكنيسة الكاثوليكية.
لكن شئ مختلف ظهر في اليونان في القرن السابع قبل الميلاد. وجاء أول تفسير فلسفي، بعيدا عن الأساطير. يشرح لنا أسباب حدوث فيضان نهر النيل خلال الصيف من كل عام. بالرغم من أن معظم أنهار الدنيا تجف أثناء فصل الصيف.
فيضان نهر النيل يحدث بسبب “رياح الصحراء”. ليس بسبب الصراع بين الآلهة، أو علاقات الحب والزواج بينهم. هنا نجد الظواهر الطبيعية تفسر بظواهر طبيعية أخرى. القوى الخفية الخارقة للطبيعة ليس لها دخل بموضوع فيضان نهر النيل.
لذلك يمكننا القول بأن المدن الاغريقية هي مهد الفلسفة الغربية. إن لم يكن الاغريق قد نقلوها عن المصريين عن طريق مدينة الإسكندرية التي كانت مدينة يونانية أيام حكم البطالمة، أو قبل ذلك. ثم طوروها وأبعدوها عن الفكر الديني، لكي تصبح فكرا مستقلا.
لماذا الإغريق وليس غيرهم من الشعوب؟ لسبب بسيط. لأنهم لم يكن لديهم نظام كهنوتي ديني مسيطر، يحجر على الرأي ويمنع التفكير المستقل. سبب آخر هو ولع الإغريق بالتفاصيل. مثلا، قام الشاعر هومير في ملحمة “الإلياذة” بوصف درع البطل “أخيل” في أربع صفحات كاملة.
سبب إضافي هو إدراك الاغريق للتغيير وصراع الأضداد. الشتاء والصيف، البرد والحر، الحب والكره، الحياة والموت، إلخ.
كل ذلك دفعهم للبحث عن الحقائق والاسباب بعيدا عن التفسيرات الدينية. هنا نرى العقل البشري يعمل مستقلا، دون قيود تمنع انطلاقه إلى آفاق بعيدة.
أول محاولة لتفسير ما يجري في هذا الكون، بعيدا عن قصص الأساطير، جاء على يدي “طاليس” المالطي (639 440 ق م). وهو أول الفلاسفة المعروفين. مالطة التي ينتسب إليها طاليس، تقع في أحد ثغور آسيا الصغرى من بلاد الإغريق القديمة. وهي تختلف عن جزيرة جمهورية مالطة في البحر المتوسط جنوب إيطاليا.
إذا كان هناك تغيير، فذلك لأن شيئا آخر لا يتغير، يسبب هذا التغيير. لكل سبب مسبب. تعدد الأشياء في الظاهر، وراءه وحدة واحدة وأصل واحد، أي شئ يجمعها جميعا.
قد كان الاعتقاد في زمن طاليس، أن العناصر التي يتكون منها الكون أربعة: الهواء والماء والنار والتراب. كل شئ محسوس، مكون من هذه العناصر الأربعة. لكن طاليس، كان يقول أن هذه العناصر الأربعة، لابد أن يكون لها أصل واحد. فما هو يا ترى؟
يبدو أن الماء هو أصل كل العناصر. ماء النيل يترسب ليكون الطمي، ومن الطمي تتكون أرض الدلتا. الماء يتحول إلى ثلج. الثلج يتحول ثانية إلى ماء. الماء بالحرارة يتحول إلى بخار، ثم إلى هواء ورياح. الرياح تؤجج اللهب. هذا يعني أن كل شئ أصله ماء.
طبعا هذا بالنسبة لمعلوماتنا الحالية كلام فارغ. لكن سبب أهمية أفكار طاليس ليست فيما يقوله، لكن في أسلوب تفكيره. في الطريقة التي يقول بها هذه الأفكار.
هو يقول: أن كل الأشياء مكونة من الماء. ونحن اليوم نقول كل الأشياء مكونة من الذرات. فكرة مشابهة، لكن ليست بالضبط.
كانت لطاليس انجازات أخرى غير الفلسفة. كان فلكيا بارعا. تنبأ بكسوف الشمس سنة 585 ق م. ألف سجلا للنجوم ليستخدم في الملاحة. قام بالمساعدة في تحويل مجرى أحد الأنهار. تمكن من قياس ارتفاع الهرم الأكبر، بتطبيق نظرية تشابه المثلثات على قياسين. أحدهما قياس ظل الهرم، والآخر قياس ظل عصا ثبتها عموديا.
ينسب إلى طاليس أيضا، عدد من نظريات الهندسة المستوية، منها: المثلث المتساوي الساقين، متساوي الزاويتين. الزاوية المرسومة في نصف الدائرة قائمة. يتطابق المثلثان، إذا تساوى في كل منهما زاويتان وضلع.
لم يقبل بعض معاصري طاليس قوله أن الماء هو أصل كل الأشياء. منهم “أناكسيماندر” (610 546 ق م)، تلميذ طاليس، وهو أيضا مالطي.
كان يقول أناكسيماندر، أنه لو كانت المياة هي أصل كل شئ، لتحول كل شئ إلى ماء مرة ثانية بمرور الوقت. بمعنى أن كل شئ يرجع إلى أصله في نهاية الأمر عن طريق التحلل (إنتروبيا). كما أنه من غير المعقول أن يتحول الشئ إلى نقيضه. فكيف تتحول المياة إلى نار، والماء أصلا يطفئ النار.
لذلك يعتقد أناكسيماندر أن أصل الأشياء لا يمكن أن يكون الماء. ولا أي عنصر من هذه العناصر الأربعة، يصلح أن يكون أصل الأشياء. ماذا يكون ياترى؟ لابد أن يكون شيئا خفي لا نلاحظه. غير محدد الشكل وغير متناهي.
واحد سرمدي لا يتغير. يختلف كل الاختلاف عن الكثرة المتغيرة الفانية. لأنه لو كان شيئا متغيرا محدد الشكل، أصبح مكونا من العناصر الأربعة المعروفة. أناكسيماندر يتفق هنا مع فلسفة هيربرت سبنسر التي نشرها عام 1860م.
هذا الشئ الغير محدود، يجب أن يحتوي على كل المتناقضات التي تتصارع داخله. هو أصل الأشياء وسبب الحركة. منه وجدت العناصر الأربعة، الماء والهواء والنار والتراب. مآل كل شئ إلى الفناء والتحول إلى هذا الشئ الغير محدود الشكل. مرجع كل شئ إلى أصله.
كان أناكسيماندر عالم في الفلك والجغرافيا. يؤمن بالقياسات والتجربة والتحليل المنطقي للظواهر. يقول بكروية الأرض. قام برسم خريطة لها. كانت له أفكارا متقدمة في نشأة الحياة وتطور الكائنات الحية. تتفق إلى حد بعيد مع نظريات “لامارك” و”دارفون” في القرن التاسع عشر في التطور.
كان أناكسيماندر يقول بأن الأرض كانت كتلة منصهرة سائلة، ثم بردت. الحرارة المتبقية كافية لكي تشكل الكائنات الحية، التي بدأت كحياة بدائية. ثم تدرجت بسبب عوامل البيئة لكي تكون كائنات راقية منها الإنسان. أفكار عجيبة ورائعة قبل الميلاد بستة قرون، لكنها تقترب إلى حد ما من أفك ارنا الآن.
يأتي بعد ذلك “أناكسيمنيس” (585 – 525ق م). مالطي أيضا، تلميذ أناكسيماندر. ليقول بأن أصل الأشياء هو الهواء. من الهواء تنشأ جميع العناصر الأخرى. بالتلطيف تنتج النار, وبالتكثيف تحدث الرياح والسحب والماء والأرض والحجارة. الروح هواء، يمسك أجسامنا. كذلك هواء العالم هو روحه السارية.
هنا يقول أناكسيمنيس أنه بالتلطيف والتكثيف، أي بتغيير كمية الهواء، تتغير نوعية المادة. التغيير في الكمية، يؤدي إلى التغيير في النوعية. هذا ما نقوله نحن اليوم. التغير في عدد البروتونات داخل نواة الذرة، يحول الذرة من عنصر معين إلى عنصر آخر.
نلاحظ هنا حرية الرأي والبحث عن الحقيقة. لا مصادرة لرأي مخالف، وحقه في الاختلاف. طاليس قال بأن الأصل هو الماء. فيعارضه أناكسيماندر ويقول: لا بل أصل الأشياء هو شئ غير محدود. فيأتي اناكسيمنيس ليخالف كلا منهما ويقول بأن أصل الأشياء هو الهواء.
المهم هنا هو حق المفكر في قول رأيه دون حجر أو خوف. هكذا تتقدم البشرية. وهذا سبب أهمية هؤلاء الفلاسفة الأوائل الثلاثة، عظمة على عظمة. قيمة كبيرة للفلسفة اليونانية والبشرية.
هؤلاء الثلاثة، طاليس وأناكسماندر وأناكسيمنيس، هم أول الفلاسفة المعروفين. وأول مدرسة فلسفية في العالم الغربي تعرف بالمدرسة الأيونية أو المالطية. بالرغم من اختلاف الفكر بينهم، إلا أنهم يتفقون في شئ واحد.
هو البحث عن تفسير طبيعي بسيط، لفهم الظواهر الطبيعية، وما يحدث في هذا الكون. أي أنهم كانوا يعتمدون على الملاحظة والتفكير المنطقي. وليس النقل والأسطورة. كما أنهم كانوا يرجعون أصل كل شئ إلى شئ واحد. هذه هي أصول الفكر العلمي الغربي الحديث.
طبعا لكل شئ نهاية. جاءت نهاية المدرسة الأيونية بعد أن اجتاحت جيوش الفرس مالطا، في آسيا الصغرى، بعد اتفاقية السلام بين الإغريق والفرس. فلم تعد مالطة مدينة اغريقية، تتمتع بالحرية التي كانت تتمتع بها من قبل.
بعد المالطيين، جاء “فيثاغورث” (572 500 ق م). فيثاغورث هو أول اسم أجنبي غريب يمر علينا في المدرسة ونحن أطفال. فهو صاحب أشهر نظرية في الهندسة المستوية، هندسة اقليدس. النظرية تقول بأن المربع المنشأ على وتر المثلث قائم الزاوية، يساوي مجموع المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين.
فيثاغورث، لم يتبع خطا الفلاسفة المالطيين في البحث عن أصل مادي واحد لكل الإشياء. مثل الماء أو الهواء أو الشئ الغير محدود. لكنه جاء بنظرية غريبة بعض الشئ. هي أن الأرقام هي أصل كل شئ.
قد يبدو للوهلة الأولى أن هذا كلام فارغ. لكن فيثاغورث، لم يكن ساذجا أيضا. فقد كان يعني أن الوصف الصحيح للحقيقة، يمكن التعبير عنه بالأرقام والمعادلات الرياضية.
كانت لفيثاغورث إضافات كبيرة في الهندسة المستوية بعد اقليدس. أوجد العلاقة بين نسب أطوال الأوتار، ونغمات السلم الموسيقي. كان يقول بأن الكون كله في تناغم موسيقي. سيمفونية عظيمة. نظرية الأوتار الحديثة تقول ذلك أيضا.
تأثير فيثاغورث في الأجيال اللاحقة كان كبيرا. المدرسة الفيثاغورثية استمرت 400 سنة بعده. أفلاطون نفسه، تأثر بفكر فيثاغورث.
كان فيثاغورث، إلى جانب كونه عالما وفيلسوفا، زاهدا ودرويشا ورئيس جماعة دينية “كلت”. أعضاؤها كانوا ملتزمين بالتقشف، ولبس الملابس البيضاء والبعد عن أكل اللحم، وتقديس الارقام، وتحريم أكل الفول.
نعم الفول، لأن حبة الفول، يوجد بداخلها جزء صغير يشبه شكل الجنين الآدمي. فكيف يأكل الإنسان أخيه الإنسان. ويبدو أن فيثاغورث كان قد تعلم الهندسة والزهد من الكهان المصريين أثناء اقامته 10 سنوات في مدينة منف بمصر.
يأتي بعد ذلك الفيلسوف الإغريقي “هيروقليطس” (535 475 ق م). كان يعيش في أسيا الصغرى (تركيا حاليا)، في مدينة إفسوس. قام بتعليم نفسه بنفسه. تعتبر فلسفته كئيبة متشائمة.
أفكار هيروقليطس جديدة تماما، غريبة بعض الشئ. فهو يقول بأن أصل كل شئ، ليس الماء أو الهواء أو الشئ الغير محدود، كما يقول الفلاسفة الذين سبقوه، إنما أصل الأشياء هو النار.
هناك شئ في طبيعة النار. هي دائمة التغيير والحركة. لذلك الأشياء التي تتكون من النار، لابد أن تكون دائمة التغيير والحركة أيضا.
إنك لا تستطيع أن تغمس قدمك في نفس النهر مرتين. لأن النهر في الحالة الأولى يختلف تماما عن النهر فى الحالة الثانية. النهر دائم الحركة. هناك مياة تبخرت ومياة تسربت وأسماك تحركت، وهكذا.
كان هيروقليطس يؤمن أيضا بوحدة الأضداد. خلق وتدمير، ميلاد ووفاة، حب ونضال، ليل ونهار، خير وشر. كل شئ وضده يكونان وحدة واحدة. لا يستطيع أيا منها أن يوجد بمفرده. نحن نقول اليوم أن الإلكترون له مضاد يسمى البوزوترون، والمادة لها مضادات المادة.
طفولتك البريئة ذهبت ولن تعود. الناس الذين كانوا يحبونك، ماتوا ولم يعد لهم وجود. أصدقاؤك ذهبوا وانشغلوا بهموم معاشهم. إخوتك وأخواتك تزوجوا وتفرقوا فى البلاد. لم يبق شئ على حاله كما تركته. قمة فى التشاؤم.
لكن هناك شئ إيجابي في أفكار هيروقليطس. نعم يوجد شئ إيجابي. فهو يقول أنه هناك هدف منطقي، وليست العشوائية، وراء هذا التغيير الدائم للأشياء. هناك “لوجوس”، وليس “ميثوس” أو الأسطورة، يفسر لنا ما يحدث. هذه الأفكار كان لها تأثير كبير على أفلاطون لاحقا، وهي أساس مفهوم القوانين الطبيعية حاليا.
الحرب هي أم كل الأشياء. الكون يقوم على الصراع الذي ينتهي بالوحدة والتناغم. هذا ليس غريبا علي فيلسوف عاصر حروب الفرس واليونان. قبل وفاته بثمان سنوات، قام داريوس ملك الفرس بالإغارة على بلاد الاغريق، التي انتهت بمعركة الماراثون وهزيمة الفرس عام 490 ق م.
نحن نعلم أن معظم الاختراعات الهامة مثل تفتيت الذرة وعمل القنبلة الذرية، أتت بسبب الحروب والاستعداد لها. معظم الدول العظمى والامبراطوريات، ظهرت بعد حروب طاحنة.
العصر الذهبي للحضارة المصرية القديمة أيام حتشبسوت وتحتمس الثالث، جاء بعد حروب الاستقلال ضد الهكسوس، بقيادة كامس وأحمس. الحضارة العربية، جاءت بعد حروب الفتوحات الإسلامية.
يأتى بعد هيروقليطس، الفيلسوف “بارمينيدس” (515 440 ق م). ولد فى مدينة إيليا اليونانية على الساحل الإيطالي الجنوبى. وكان بارمينيدس شاعرا وكاهنا للإله أبوللو.
بارمينيدس تقدم بالفلسفة اليونانية خطوة إلى الأمام. كان متأثرا بشكل كبير بفيثاغورث. هيروقليطس يقول أنك لا تستطيع أن تغمس قدمك فى نفس النهر مرتين، وبارمينيدس يقول أنك لا تستطيع أن تغمس قدمك فى النهر، حتى ولو مرة واحدة. لأن هذا مجرد وهم.
يبدأ بارمينيدس بالبديهيات. أى بالحقائق التى لا تحتاج إلى برهان. ولا يمكن إنكارها إلا إذا كانت تتعارض مع نفسها. هنا يجب أن نفرق بين الحقيقة التي هي واحدة وثابتة ولا تقبل التناقض، وبين الرأي الذي قد نكونه فى لحظة ما حول قضية معينة.
الحقيقة نأخذ بها بدون تردد. أساس البحث عن الحقيقة، هو الإقرار بوجود الكائن المطلق. وهو الشئ الموجود الذى نستطيع أن نتخيله. وكل شئ نتخيله، يمكن أن يوجد حقا. أما العدم، فلا يمكن أن نتخيله. لأننا لو تخيلناه، أصبح شيئا كائنا. بذلك لايصبح عدما.
لهذا فالعدم غير موجود. ولا يبقى لنا سوى الوجود أو الكينونة فقط. أي ذلك الشئ الذي يوجد فى أصل كل العالم، والذي تنحدر منه وتعود إليه كل الأشياء. هو القوة الميتافيزيقية التي تحكم الكون.
من هنا يصبح الوجود أو الكائن المطلق، باق أبدا لا يتغير ولا يتبدل، ويستحيل أن يكون غير موجود. ولا يمكن تجزئته أو محوه. الوجود ليس حادثا وليس قديما. هو بلا ماض ولا مستقبل وفوق أي متغيرات.
من هنا تنتفي الحركة. لأن الحركة هى انتقال الموجود أو الكينونة من مكان توجد به، إلى مكان آخر لا توجد به. هذا مستحيل، لأنه لا يوجد مكان خال من الكائن المطلق. وما كل التغيرات التي نراها إلا وهم وخيال من صنع الحواس، أو هي آراء نصف بها الأشياء.
غاية فلسفة بارمينيدس، الوصول إلى ثابت الكينونة الذي لا يتغير ولا يزول . عندما تنظر إلى الأشياء، تدرك منها صفاتها المتغيرة الزائلة، إلا شيئا واحدا. هو الوجود أو الكينونة. هذا التجريد العالي, الخاص باعتبار كل تبديلات المادة زائلة، هو ما يقرب بارمينيدس من المثاليين اللاحقين.
من إيليا بلد بارمينيدس، يأتي فيلسوف آخر هو “زينو” (490 430 ق م). يستخدم المنطق لكي يثبت بعض الأحاجي والألغاز. فهو يثبت مثلا استحالة الحركة كالآتي:
إنك لا تستطيع أن تقطع مسافة ما، لتكن المسافة بينك وبين الباب مثلا. لأنك لكي تصل إلى الباب، عليك أن تقطع نصف المسافة أولا. لكي تقطع نصف المسافة، عليك أن تقطع نصف النصف. أى ربع المسافة بينك وبين الباب. لكي تقطع ربع المسافة، عليك أن تقطع ثمن المسافة أولا. هكذا إلى أن نصل إلى مالانهاية.
أي أن هناك أجزاء من المسافة عددها لانهائي علينا أن نقطعها أولا قبل الوصول إلى الباب. حسب مفهوم زينو، عدد نهائي من المسافات يستلزم زمن لا نهائي. من ثم، يصبح الوصول إلى الباب شيئا مستحيلا. طبعا يمكننا الآن حل هذا اللغز ببساطة، باستخدام المتواليات الهندسية اللانهائية.
هناك تناقض آخر أوقعنا فيه زينو. وهو السباق الشهير بين أخيل والسلحفاء. أخيل سريع العدو، هو أحد أبطال إلياذة هومير، والسلحفاء معروفة ببطئها الشديد فى السير.
في بداية السباق، السلحفاء تتقدم عن أخيل بمسافة ما، وهذا عدل. لكي يلحق أخيل بالسلحفاء، عليه أن يصل إلى المكان الذي كانت توجد فيه السلحفاء فى بداية السباق. فتكون السلحفاء قد سبقته بمسافة أخرى.
لكي يلحق أخيل بالسلحفاء فى المسافة الثانية، تكون قد سبقته بمسافة ثالثة. وهكذا إلى مالانهاية. أي أن أخيل لن يلحق بالسلحفاء مهما كانت سرعته بالنسبة لسرعة السلحفاء. وأيضا يمكننا حل هذه المشكلة باستخدام المتواليات الهندسية اللانهائية.
زينو ومن قبله بارمينيدس,سببا أزمة في الفلسفة اليونانية القديمة:
أولا: لأنهما أجبرانا على التفرقة بين ما نشاهده بحواسنا، وبين ما نصل إليه عن طريق المنطق والتفكير. هذا الفصل، تطور فيما بعد إلى مدرستين فى الفكر الفلسفي الغربي. هما المدرسة التجريبية والمدرسة العقلانية.
ثانيا: لأنهما جعلانا نعيد النظر فى فرض أن أصل الأشياء، شئ واحد (ماء أو هواء أو نار ،إلخ). لأن هذا سوف يقودنا إلى أفكار بارمينيدس التى لايمكن برهان صحتها أو الدفاع عنها.
يأتي بعد ذلك مجموعة من الفلاسفة، تؤمن بأن أصل الأشياء ليس شيئا واحدا، إنما أشياء كثيرة. أولهم “امبيدوكليس” (؟ – 440 ق م). يقول امبيدوكليس أن أصل الأشياء ليس شيئا واحدا، إنما العناصر الأربعة المعروفة. الماء والهواء والنار والتراب. أسماها الجذور الأربعة.
فى مواجهة نقد زينو للحركة، جاء امبيدوكليس بقوتين لتفسير الحركة. هما قوة الحب وقوة النضال. قوة الحب توحد الأجزاء المختلفة. قوة النضال تدمر وتفتت الأشياء القديمة وتحولها إلى أجزاء صغيرة.
أفكار امبيدوكليس، تبناها سيجماند فرويد، عالم التحليل النفسي المعروف. وقام فرويد بتسمية هاتين القوتين ب “إيروس” و “ثاناتوس”. وهما: غريزة حب الحياة، وغريزة حب الموت، الموجودتان فى اللاوعي في عقل كل إنسان.
يتفق فرويد مع امبيدوكليس علي أن هاتين القوتين تكونان أساس كل المواد العضوية. المادة العضوية، تختلف عن المادة الغير عضوية فى أنها حية تحتاج إلى شئ آخر بجانب العناصر المكونة لها لكي تنبض بالحياة.
أول نظريات التطور، جاءت من أفكار امبيدوكليس. الحب يجمع أنواعا معينة من الوحوش. رؤوس كثيرة تنموا بدون رقاب، أزرع بدون أكتاف، عيون بدون رؤوس. من يستطيع منهم البقاء، يبقى. كان أرسطو العظيم لا يأخذ بهذا الرأي. لأنه يترك الكثير لعامل الصدفة.
يأتي بعد ذلك فيلسوف آخر من الفلاسفة الجمعيين (أصل الأشياء عناصر كثيرة)، “أناكساجوراس” (500 428 ق م). وجد أناكساجوراس أن نظرية امبيدوكليس بسيطة أكثر من اللازم. بدلا من وجود أربع جذور كأساس لكل الأشياء، جاء أناكساجوراس بعدد لانهائي من الجذور أو البذور كأصل لكل الأشياء.
هذه الجذور أو البذور اللانهائية، تشبه العناصر الكيميائية فى عالمنا اليوم. أي أن هذه الأفكار تبدو أفكارا حديثة بمقاييسنا العلمية. كل جسم فى هذا العالم، يحتوي على بذور من كل العناصر. لكن عنصر واحد تكون بذوره هي المسيطرة.
كل جسم، به بذور من كل نوع بنسب مختلفة. وإلا كيف يأتي الشعر من أشياء ليس بها شعر، أو اللحم من مواد ليس بها لحم.
أناكساجوراس يتفق مع امبيدوكليس فى الحاجة إلى قوة لتفسير الحركة والتغير. لكنه، بدلا من استخدام قوتي الحب والنضال، قام باستخدام قوة واحدة، هي قوة العقل. هذا يعني أن العالم يدار وفقا لنظام وترتيب عقلاني. العقل عند أناكساجوراس، يشبه إلى حد كبير مفهوم “الله”. فقد خلق الله الأشياء من بذور أو عناصر.
هناك فرق بين عالم الأحياء وعالم الجماد. عالم الأحياء يحتوي على العقل داخله. بينما عالم الجماد، مسير بالعقل خارجه. العقل موجود في كل مكان. لكنه يختلف حسب الجسم الذي يحتويه. وهي أول تفرقة بين عالم الأحياء وعالم الجماد في الفكر القديم.
جاء بعد أناكساجوراس، مجموعة فلاسفة بقيادة “ليوسيبوس” (480 420 ق م)، و”ديموقريطس” (460 370 ق م)، يطلق عليهم اسم الذريين نسبة للذرة. لقد رأوا العالم يتكون من أجسام مادية. الأجسام المادية تتكون من مجموعة من الذرات. كلمة الذرة باليونانية تعنى الشئ الغير قابل للتجزئة.
ديموقريطس أخذ الكائن الكوني أو الكينونة الذي جاء به بارمينيدس، وقام بتجزئته إلى ذرات صغيرة. كل منها مثل الكائن الكوني، لا يمكن خلقها أو تدميرها أو تفتيتها إلى أجزاء أصغر. أبدية وليس بها فراغات.
هذه الذرات، فى حركة مستمرة فى فراغ خالي تماما. تتحرك فى مسارات مرسومة لها بالقوانين الطبيعية. على العكس من بارمنيدس، الفراغ والحركة هنا أشياء حقيقية مثل الذرات نفسها، وليست خيالا.
هذا يعني أن الفلسفة اليونانية فى عام 370 ق م، قادت إلى الفكر المادي، وإلى الفكر الحتمي. لا يوجد فى هذا الكون سوى أجسام مادية فى حركة. لا حرية أو إرادة، إنما ضرورة وامتثال.
ماذا أنجزه هؤلاء الفلاسفة الذين ظهروا قبل سقراط؟ لقد جاءوا بفكر جديد يختلف تماما عن الفكر السائد السابق لهم، والذي يعتمد على الحدوتة والأسطورة والدين فى تفسير طبيعة الأشياء.
هذا الفكر، تطور فيما بعد إلى العلوم والفلسفة التى نعرفها اليوم. أفكار هؤلاء الفلاسفة الذين ظهروا قبل الميلاد، يمكن أن نتابعها فى أفكار علمائنا وفلاسفتنا ومفكرينا اليوم.
الفصل بين الحجة والمنطق من جهة، وما تشاهده الحواس فى فلسفة “كانط”، يمكن أن نتتبع جذوره فى الفلسفة اليونانية قبل الميلاد. أول تفسير علمي لتطور الكائنات جاء عن طريقهم. كذلك ربط الظواهر الطبيعية بالأرقام والمعادلات الرياضية فى صورة قوانين ونظريات. وهي أساسيات العلوم الحديثة اليوم.
لكنهم بتحطيمهم الفكر الديني التقليدي والقيم الخلقية المتعارف عليها، لم يتركوا شيئا يصلح كبديل في مجال الأخلاق. وكما قال أرسطوفان فى أحد مسرحياته: “عندما سقط زيوس، جاءت الفوضى وسيطرت الأعاصير.” أو كما يقول مشايخنا اليوم، لولا الدين لسادت الفوضى وفجرت النساء.
القيم الخلقية النبيلة التى كانت سائدة أيام الحكم الارسطوقراطي، والمستمدة من الدين وأبطال الأساطير، بدأت تخبوا بسبب سيطرة طبقة التجار الجديدة (البرجوازية). التي لم تعد تغريها قيم الشرف والشجاعة والاخلاص. إنما كان كل همها طلب السلطة والنجاح والربح.
كيف تستطيع الطبقة الجديدة تحقيق السلطة والنجاح فى مجتمع يحكم بنظام ديموقاطي بدائي؟ عن طريق السياسة. الطريق إلى السياسة، كما هو الحال اليوم، يتطلب البلاغة والقدرة على خداع الجماهير .بالخطابة فى الماضي، وأئمة المساجد وأكياس السكر وزجاجات الزيت وفبركة البيانات في الحاضر، التى لا يشطرت أن تكون صادقة. لهذا يصبح علم الأخلاق ضرورة فلسفية.
تستمر ملحمة الإنسان ونضاله الجبار لكشف أسرار هذا الكون، ومعرفة سبب وجوده. وتستمر قصة الفلسفة الغربية التي سوف أحاول تبسيطها بقدر الإمكان للسادة القراء في المقالات القادمة إنشاء الله.