إعداد: أ.د أسامة ماهر حسين – أستاذ التخطيط وأصول التربية – المركز القومي للامتحانات والتقويم التربوي – القاهرة.
في الآونة الأخيرة، بدأ معالي وزير التربية والتعليم في الحكومة المصرية الجديدة الدكتور/ محمد عبد اللطيف بجولة مكوكية في معظم محافظات مصر، بحثًا عن حلول عاجلة لمشكلة الكثافة في الفصول، والتعامل مع نقص أعداد المعلمين قبل بداية العام الدراسي الجديد.
هذه الجهود تعكس قلق الوزارة المتزايد بشأن التحديات التي تواجه النظام التعليمي، ولكنها تثير تساؤلات حول مدى فعالية هذه التحركات إذا لم تصاحبها تغييرات جوهرية.
على الجانب الآخر، نشهد ظاهرة غريبة تتجلى في توافد الطلاب بكثافة على السناتر التعليمية، وهي سناتر الدروس الخصوصية. في هذه السناتر، تستوعب قاعات فقيرة 150 طالبًا وطالبة في المحاضرة الواحدة، ومع ذلك، لا يبدي أي طالب أي ضيق. بل على العكس، نجد الجميع مبتهجًا ومتفاعلًا مع المعلم والأصدقاء، والمعلم نفسه في حالة نفسية ممتازة، رغم العدد الكبير الذي تبحث الوزارة له عن حلول عاجلة.
هذا التناقض الصارخ يطرح سؤالًا مهمًا: أين الخلل؟ لماذا تكتظ السناتر بينما تفرغ الفصول الدراسية بعد أسبوع واحد فقط من بداية العام الدراسي؟
أولاً: أزمة الفصول الخاوية:
مع بداية العام الدراسي، سرعان ما نجد الفصول الدراسية خاوية من الطلاب، خاصة في مراحل التعليم الأساسي والشهادات العامة. هذا الواقع يفرض علينا تساؤلات حول فعالية النظام التعليمي الحالي، وقدرته على تلبية احتياجات الطلاب وأولياء الأمور. الفصول الخاوية تعكس مشكلة أعمق تتعلق بجودة التعليم، ومدى تفاعل الطلاب مع المناهج الدراسية والمعلمين داخل المدارس.
ثانياً: تحليل الظاهرة من منظور متعدد الأبعاد:
1- العوامل الأيديولوجية:
o فقدان الثقة في النظام التعليمي الرسمي.
o رغبة أولياء الأمور في حصول أبنائهم على تعليمٍ أفضل، حتى لو كان ذلك على حساب تكاليفٍ باهظة.
o انتشار ثقافة “التحصيل” بدلاً من ثقافة “التعلم”.
2- العوامل الاقتصادية:
o ارتفاع تكاليف التعليم في المدارس الخاصة.
o ضعف القدرة الشرائية لدى بعض الأسر، مما يُجبرهم على الاعتماد على الدروس الخصوصية كبديلٍ أرخص.
3- العوامل التربوية:
o نقص أعداد المعلمين المؤهلين.
o سوء حالة البنية التحتية للمدارس.
4- العوامل النفسية والاجتماعية:
o شعور الطلاب بالملل من المناهج الدراسية وطرق التدريس التي تمارس داخل فصول المدرسة.
o رغبة الطلاب في الحصول على دعمٍ إضافيٍّ وتفاعلٍ أكبر مع المعلمين.
o تأثير الضغوط الاجتماعية على أولياء الأمور لدفع أبنائهم للحصول على دروسٍ خصوصية.
5- تدخل أولياء الأمور بصورة سلبية في العملية التعليمية :
منذ دخول أولياء الأمور بصورة سلبية في العملية التعليمية وتأثيرهم على صنع القرار التربوي بصورة ملفتة للنظر، والضغط على الرأي العام بصورة مباشرة من خلال قنوات الإعلام المتعددة ومن أهمها واشهرها مواقع التواصل الاجتماعي تدهور مستوى التعليم أكثر مما كان عليه قبل 2011م. ويتم ذلك من خلال:
• ممارساتٌ تُعيق عمل المعلمين:
o تدخل بعض أولياء الأمور في عمل المعلمين من خلال التشكيك في قدراتهم أو انتقاد أساليبهم، ممّا يُعيق عملهم ويُؤثّر على تركيزهم.
• ضغوطٌ نفسيةٌ على الطلاب:
o يُمارس بعض أولياء الأمور ضغوطًا نفسيةً على أبنائهم لتحقيق نتائجٍ أكاديميةٍ ممتازة، ممّا يُؤثّر سلبًا على صحتهم النفسية ويُقلّل من دافعيتهم للتعلم.
• تسييسُ العملية التعليمية:
o يُحاول بعض أولياء الأمور استخدام العملية التعليمية لتحقيق أهدافٍ سياسيةٍ أو أيديولوجيةٍ، ممّا يُؤدّي إلى انقسامٍ داخل المجتمع وتشتيتٍ للطلاب.
• تأثيرُ الرأي العام على القرارات التربوية:
o يُمارس بعض أولياء الأمور ضغوطًا على الرأي العام من خلال مواقع التواصل الاجتماعي للتأثير على القرارات التربوية، ممّا قد يُؤدّي إلى اتخاذ قراراتٍ غير مُتّسقةٍ مع مصلحة الطلاب.
ثالثاً: الأزمة الاقتصادية ودورها في عزوف الطلاب عن الحضور للمدرسة:
“تؤثر الأزمة الاقتصادية بشكل كبير على قرارات أولياء الأمور بشأن تعليم أبنائهم. فارتفاع الأسعار بشكل عام يضطر العديد من الأسر إلى تقليص نفقاتها، ويصبح التعليم أحد أولوياتها التي يمكن التنازل عنها. فبدلاً من دفع رسوم مدرسية باهظة، وارتفاع تكاليف الانتقال اليومية للمدرسة، إضافة إلى تكاليف الوجبة اليومية؛ يجد بعض الأهالي أن إرسال أبنائهم إلى السناتر التعليمية القريبة من المنزل هو حلّ أكثر اقتصادية، حيث يمكنهم توفير نفقات المواصلات والوجبات المدرسية. كما أنّ الدروس الخصوصية توفر مرونة أكبر في اختيار المواعيد وتناسب جداول العمل المزدحمة لبعض الأسر.”
رابعاً: الخطواتٍ الإصلاحية العاجلة للعمليةً التعليمية لمعالجة هذه الأزمة، ونُساهم في بناء نظامٍ تعليميٍّ قويٍّ يُلبي احتياجات الطلاب.
1- خطواتٌ إصلاحية على مستوى الحكومة:
• تحسين رواتب المعلمين وتوفير الرعاية الاجتماعية والصحية لهم:
o إنّ تحسين رواتب المعلمين بشكلٍ كبيرٍ هو الخطوة الأولى لتعزيز مكانتهم وتحفيزهم على العمل بشكلٍ أفضل، ويمكن في هذا الشأن تخصيص نسبة من أرباح الشركات والمؤسسات التي تستفيد بشكل مباشر وغير مباشر من قطاع التعليم وكل الخدمات والأنشطة المتعلقة به مثل شركات: الاتصالات، الكهرباء، المياه، الغاز، الأدوية، البترول، حتى نسهم في تقديم تعليم جيد للمواطن المصري.
o يجب توفير الرعاية الاجتماعية والصحية للمعلمين وعائلاتهم، لضمان شعورهم بالأمان والاستقرار أثناء الخدمة، وأيضاً بعد خروجهم للتقاعد.
• تطوير المناهج الدراسية:
o يجب مراجعة المناهج الدراسية بشكلٍ دوريٍّ وتطويرها لتتناسب مع متطلبات العصر واحتياجاته.
o كما يجب التركيز على تنمية مهارات التفكير النقدي والإبداع لدى الطلاب، بدلاً من التركيز على الحفظ والتلقين.
• تحسين البنية التحتية للمدارس:
o يجب توفير بيئةٍ تعليميةٍ آمنةٍ ومريحةٍ للطلاب، من خلال تحسين البنية التحتية للمدارس، وكل هذا يمكن تنفيذه من خلال اسهامات الشركات والمؤسسات التي تم الإشارة إليها في السابق ضمن هذا المقال.
o يشمل ذلك توفير مرافقٍ صحيةٍ مناسبةٍ، وقاعاتٍ دراسيةٍ مُجهزةٍ بأحدث الوسائل التعليمية، وملاعبَ ومساحاتٍ خضراءٍ للأنشطة الرياضية والترفيهية.
• زيادة أعداد المعلمين المؤهلين:
o يجب زيادة عدد المعلمين المؤهلين بصورة دورية كما أكد بذلك فخامة رئيس الجمهورية، مع توجيههم إلى حضور برامجٍ تدريبيةٍ مكثفةٍ تُساعدهم على تطوير مهاراتهم وتحديث معارفهم.
o كما يجب تحسين عملية اختيار المعلمين لضمان قبول أفضل العناصر وأكثرها كفاءةً، وهذا ما تم مؤخرا مع المعلمين الجدد.
• تشديد الرقابة على سناتر الدروس الخصوصية:
o يجب تشديد الرقابة على سناتر الدروس الخصوصية لضمان جودة التعليم المقدم فيها.
o كما يجب التأكد من أنّه لا يتمّ استغلال الطلاب من خلال فرض رسومٍ باهظةٍ أو تعليمٍ غير مُناسبٍ.
o في حال صعوبة اتخاذ قرار بإغلاق هذه المنافذ، يجب أن يكون هناك ضوابط في التعامل معها إداريا من خلال الحكومة من أهمها: عدم تشغيل أي مركز خدمة تعليمي إلا بعد الساعة السادسة مساءً وينتهي الساعة العاشرة مساءً، مع زيادة ساعات العمل في العطلات الرسمية، أسوة بما يتقوم به الحكومة في ملف ترشيد الطاقة بكل أنواعها.
• نشر الوعي بأهمية التعليم الذاتي والتعلم الإلكتروني:
o يجب نشر الوعي بأهمية التعليم الذاتي والتعلم الإلكتروني بين الطلاب وأولياء الأمور.
o كما يجب توفير المزيد من الموارد التعليمية الإلكترونية لتمكين الطلاب من التعلم الذاتي وتطوير مهاراتهم بشكلٍ مستمر.
• إشراك جميع الجهات المعنية في عملية الإصلاح التعليمي:
o يجب إشراك جميع الجهات المعنية في عملية الإصلاح التعليمي، بما في ذلك وزارة التربية والتعليم، والمدارس، وأولياء الأمور، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص.
o من خلال التعاون والتشاركية، يمكننا ضمان نجاح عملية الإصلاح وبناء نظامٍ تعليميٍّ مُستدامٍ يُلبي احتياجات جميع الأطراف.
2- خطواتٌ إصلاحية على مستوى الفرد:
• دعم النظام التعليمي الرسمي:
o يجب على أولياء الأمور دعم النظام التعليمي الرسمي بدلاً من الاعتماد على الدروس الخصوصية بشكلٍ أساسي، والحرص على ذهاب الطلاب إلى المدارس يوميا في كل مراحل التعليم، والتأكيد على أن الحضور للمدرسة له إيجابيات على الصحة النفسية والاجتماعية للطلاب جنبا إلى جنب مع التحصيل الدراسي.
o فتح قنوات التواصل بين أولياء الأمور والمعلمي تحت ضوابط تضعها كل مدرسة لمتابعة تحصيل أبنائهم، وتشجيعهم على المشاركة في الأنشطة المدرسية، والتواصل مع المعلمين بشكلٍ دوريٍّ.
3- المشاركة المجتمعية في التعليم: ضرورةٌ مع حُسنِ التوجيه:
إنّ مشاركة أولياء الأمور في العملية التعليمية ضروريةٌ لتحسين جودة التعليم، ولكن يجب توجيه هذه المشاركة بشكلٍ سليمٍ لضمان عدم التأثير سلبًا على سير العملية التعليمية.ويتم ذلك من خلال ما يأتي:
تفعيل قنوات الحوار وثقافة الحوار البنّاء : يجب تفعيل قنوات الحوار بين أولياء الأمور والإدارة المدرسية والمعلمين، لخلق بيئةٍ من التعاون والثقة المتبادلة.
تحديدُ مسؤوليات كلّ طرفٍ بوضوح: يجب تحديد مسؤوليات كلّ طرفٍ من أطراف العملية التعليمية بوضوح، لضمان عدم التداخل في الصلاحيات وتحديد مسار العمل بشكلٍ فعّال.
تثقيفُ أولياء الأمور حول دورهم في العملية التعليمية: يجب توعية أولياء الأمور حول دورهم الإيجابي في العملية التعليمية، وكيفية مساعدة أبنائهم دون التدخّل في عمل المعلمين أو التأثير على القرارات التربوية.
المشاركةُ في الأنشطة التعليمية: يجب تشجيع أولياء الأمور على المشاركة في الأنشطة التعليمية المختلفة، مثل: حضور الفعاليات المدرسية، والتطوّع في البرامج التعليمية، ودعم الأنشطة اللامنهجية.
إشراك القطاع الخاص في دعم التعليم: يمكن للحكومة تشجيع القطاع الخاص على المشاركة في دعم التعليم من خلال توفير منح دراسية، والمساهمة في تحسين البنية التحتية للمدارس، وتوفير برامج تدريبية للمعلمين.
تحفيز المجتمع المدني: تحفيز المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية على تقديم الدعم اللازم للطلاب من خلال توفير برامج تعليمية، وتقديم الدعم المالي للأسر المحتاجة.